حول نفد الظاهرة الدينيّة

هل من الممكن نقاش الدين و العقيدة بأدوات العلم، و الفلسفة؟؟

هذا سؤال ورد فى خضم بعض المقالات والتّعليقات التى نشرت فى هذا الموقع وتناولت الطّاهرة الدينيّة.

الإجاية:

وإذا لم يكُن مُمكناً نقاش الدين والعقيدة بأدوات العلم والفلسفة، فبأىّ وسيلةٍ أخرى يمكن مناقشتها؟ هل تُترك هذه المسألة بكلّ أهميّتها للإفتراضات غير المبنيّة على اﻷدلّة، أم تُترك للتّجارب الشّخصيّة -من قبيل الحدس والذّوق- والتى تبقى شخصيّة بحتة وﻻ يمكن التّأكّد من صحّتها أو التّثبُّت من الدوافع الشّخصيّة الكامنة من وراء روايتها؟

إنّ القول بوجود تساؤلات لم يتمكّن العلم -والفلسفة التى هى أحد أفرعه المهمّة- حتى اﻵن من تقديم إجاباتٍ نهائيّة عليها هو قولٌ صحيح ومعقول، حيث أنّ العلم المُستند على العقلنة واﻷدلّة ﻻ يدّعى امتلاك إجابات نهائيّة ينبغى التوقف عندها عن البحث والتّساؤل، بلّ إنّ الفراغ المعرفى هو ما يعتمد عليه العلم الحقيقى فى البقاء والتقدّم.

أمّا القول بترك ساحة الفراغ المعرفىّ تلك أرضاً مشاعاً لتسرح فيها جحافل الوهم والخيال المدفوعة بالنّوازع البشريّة المختلفة والمُعقّدة لتقدّم إجابات يُزعم بقطعيّتها ونهائيّتها، فهو قول مردود. فقد سعى سدنة هياكل المنظومة الدينيّة دوماً للقول بوجود منطقة خاصّة بما أسموه بالعلم الدّينى التى ﻻ ينبغى للعقل الذى يعتبرونه “قاصراً” الولوج فيها والتّعدّى عليها، وهى منطقة تتوفّر لأصحابها مؤهّلات بعينها ﻻ تتوفّر ﻷصحاب المنطقة اﻷخرى، أى منطقة “العلم الدّنيوى”. لقد فتح هذا التّقسيم الوهمى المُغرِض الباب على مصراعيه أمام الزّعم القائل بوجود أسئلة يملك “الدّين” فقط -أو رجاله- الحقّ الحصرى فى الإجابة عليها، فى مقابل أسئلة أخرى يُمكن للعلم “الدّنيوى” العقلانى أن يحاول الإجابة عليها وهى غالباً ما تتعلّق بتفسير الظّواهر الكونيّة المحسوسة التى لم تتطرّق إليها النّصوص الدّينيّة، أمّا ما تطرّقت إليه النّصوص الدينيّة من تلك الظّواهر، فيجب على علماء العلم الدّنيوى الخذر عند تناولها بالبحث والإستكشاف. ومع ذلك فكثيراً ما تعدّى سدنة هياكل المنظومة الدّينيّة على منطقة “العقل”، وليس ما حدث لجاليليو حول طبيعة اﻷرض ووضعها فى المنظومة الشّمسيّة ببعيد، وليس ببعيد أيضاً رأىّ الشّيخ السّعودى “إبن باز” فى موضوع دوران اﻷرض حول نفسها وحول الشّمس، وهو الرّاى الذى كان الشّيخ واثقاً من صحّته إلى الحدّ الذى جعله يؤلّف كتاباً حوله عنوانه “الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس والقمر وسكون الأرض”.

إنّ العقل الذى تمكّن به الكائن البشرى من استكشاف بيئته الخارجيّة المحيطة به، هو وحده الذى يمكن به استكشاف البيئة الدّاخليّة لهذا الكائن بما فى ذلك تكوينه النّفسى، العقلى والعاطفى، والإتيان بما يُمكن طرحُه على طاولة البحث العلمى العقلانى والموضوعى بصورة مُفيدة.

إنّ الفراغ يعنى “المجهول”، والمجهول هو أشدّ ما يخافه الكائن البشرى المدفوع بطبيعة تكوينه لردم هوّة المجهول بمحاولة بسبر غورها معرفيّاً، لكون المعرفة تحقّق للكائن شعوراً بالسّيطرة على ذلك المجهول. فالمعرفة أداة سُلطة. ولكنّ ما حدث هو أنّ تلك الهوّة كثيراً ما رُدِمت بإجابات مُتعجّلة وافتراضات غير مفحوصة، ولكنهّا مع ذلك كانت إجابات “مُريحة” يمكنها أن تقوم بدور العقّار فى تخدير العقل الشّكّاك والمُتسائل وقمعِه وإن إلى حين، كما يُمكنها تسهيل تشكيل منظومات هرميّة سلطويّة يُحشر البشر اﻷقلّ وعياً فيها حشراً ويُساقون كما تُساق اﻷنعام، بينما يجلس القلّة اﻷدهياء متربّعين على قممها ليس باختيار بشرىٍّ أرضى، وإنّما باصطفاءٍ إلهىٍّ سماوى أذعنت له الرعيّة.

لقد حقّق العلم فتوحات ضخمة فى ساحة الفراغ المعرفىّ تلك وخاصّة فى الخمسين سنة اﻷخيرة، وهو اﻵن يتطرّق ضمن ما يتطرّق إليه إلى ظاهرة “التديُّن” وأسباب نشوئها، وإلى كيفيّة بروز اﻷديان وما إذا كانت اﻷديان تمثّل نتائج جانبيّة لعمليّة التطّور النّفسى البشرى التى أفرزت بجانب إيجابيّاتها الكثير من السّلبيّات، وقد تكون النّزعة للتديُّن إحدى هذه السّلبيّات، وفى اعتقادى الشّخصى أنها كذلك.

والواقع هو أنّه ليست هنالك معرفة تامّة ونهائيّة بأىّ شئ من اﻷشياء، بمافى ذلك معرفة الكائن بنفسِه. وكلّ ما هناك هو معرفة نسبيّة ولكنّها تتطوّر باستمرار تبعاً لتطوّر الكائن البشرى وانعتاقه التّدريجى من أغلال قطيعيته إلى رحاب استقلاليّته، وهو ما نشهد عليه عياناً بياناً “هنا واﻵن” من خلال نوعيّة الموضوعات التى باتت تُطرح وتُناقش فى الفضاء الإسفيرى وخاصّة تلك المتعلّقة منها بالإرث الدّينى عموماً، والإسلامى خصوصاً، وهى موضوعات لم يكُن أحد يجرؤ على مناقشتها حتى مع نفسِه إلى وقت قريب، وذلك كلّه بفضل العلم الذى ﻻ يخاف العقل وﻻ يخشى اﻷسئلة. أمّا “الدّين”، فإنّ أكثر ما يخافه هو العقل، وأشدّ ما يخشاه هو اﻷسئلة.

إنّ طرح موضوعات كهذه إن دلّ على شئ، فإنّما يدلّ على أنّ إنسان اليوم أصبح أقلّ قابليّة للبرمجة والقولبة والتّسليم بالإجابات الجاهزة، وأقلّ قابليّة للإذعان لوجود كائنات يُدّعى بفوق-بشريّتها وﻻ تاريخيّتها وبقدرتها على التّواصل دون سواها مع كيانٍ عُلوىّ فوق-بشرى وفوق-طبيعى. وإذا تصفّحنا بعض المواقع الإلكترونيّة لبلدان عُرف أهلها بالتّشدّد الدّينى الإسلامى، لبدت لنا “ثورة الشّك” واضحة جليّة فيما يُطرح فيها من موضوعات وما يُثار فيها من تساؤلات نمسّ عصب الموروث.

إنّ الواجب هو عدم الخوف من الفراغ المعرفى إلى الحدّ الذى يدفع بالفرد إلى القبول بافتراضات غير مفحوصة، وبإجابات ﻻ تقوم على أساس عقلانى، وإنّما الواجب هو اﻻعتراف بحتميّة هذا الفراغ، بل بأهميّته وضروريّته حتى نتمكّن من إنتاج معارف حقيقيّة وفاعلة، أى معارف يزداد بها الكائن البشرى وعياً بذاتِه أثناء سعيِه لمعرفة ما حوله ومن حوله.

إنّ جهلاً صادقاً أفضل من معرفة كاذبة مُضِلّة.
وعلينا أن نعلم أن ليس من وراء الطّبيعة إﻻّ الطّبيعة.
وأن ليس من وراء العقل إﻻّ العقل.
وأنّه ﻻ يُمكن تجاوز العقل إﻻّ بالمزيد من العقل.

عمر الدرديرى
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. الأخ الدريري.. تساؤلاتك جيدة ومشروعة ولا شك في أن العقل الانساني قوة هائلة ونعمة كبيرة.. ولكن:

    مٍسألة وجود الاله من عدمها.. مسألة معقدة للغاية وقد أعيت وأرهقت كل تاريخ العقل الانساني وكل العلوم والفلسفة والمعارف… وهي مسألة لم يتمكن العقل الانساني من اثباتها أو نفيها بشكل قاطع حتى الآن .. وهذا ما أدي الى وجود مدارس كثيرة حتى داخل الفكر الالحادي نفسه وهناك من يسمون أنفسهم بال (agnostics)أي الذين ليسوا متأكدين ان كان الاله يوجد حقيقة أم لا , لانه لا سبيل لمعرفة ذلك في حدود معرفة العقل البشري -المتاحة حتى الآن…!!

    من جانب آخر , فان الحاجة الى الاعتقاد, تظل حاجة نفسية انسانية راسخة!! فالانسان يظل دائما وفي كل العهود منذ ما قبل التاريخ وحتى عصر الانترنت والموبايل محناجا الى أن يعتقد في شي ما.. اله ما … رسول ما.. زعيم خارق ما…أيا كان هذا الشيء… ودونك مقولة فكتور هوقو المعروفة (اذا لم يكن هناك اله, فانه يجب اختراعه ) !!!!

    ما رأيك الأخ عمر الدريري؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..