صديقي عوض محمد الحسن قدوره

التقيت بصديقي عوض لأول مره في قاعات الدرس في كلية الآداب في جامعة الخرطوم. كان ذلك عندما كنا “برالمه” في عام ١٩٦٥، ولكن عوض لم يكن “برليما” أصيلا، بل أنه كان أكثر من ذلك: فقد جاء إلى كلية الآداب من شعبة المعمار التي كان قد قبل فيها في العام السابق. وعندما عرفته أدركت لماذا قرر أن يترك المعمار ويلوذ بالآداب، ذلك لأن عوض عقل متمرد وذات قلقه تنزع إلى الحرية وتضيق بالقيود. ولا بد أنه قد ضاق بالساعات الطوال التي قضاها في المرسم، بين حيطان أربع، يتعامل فيها مع مواد صلبة وثابته، ولا بد من أنه تصور نفسه منذ ذلك الوقت وهو يتجول بين الحجارة وأكوام الرمل وأكياس الاسمنت. ومهنة المعمار مهنة جميلة وطريفة، إذ أنها تجمع بين الخيال والإبداع، من جانب وبين التعامل مع الجماد والأشياء الملموسة التي تحتاج إلى الصبر والأناة وطول البال، والجلوس علي مدى ساعات طويلة إلى طاولة المرسم، والتجوال ما بين المواقع المختلفة، لا سيما إذا كان ذلك في حر السودان الغائظ، من جانب آخر.
وهذه الأسباب وغيرها حدت بصديقي عوض إلى أن يلوذ بكلية الآداب، وعلي وجه الخصوص شعبة الفلسفة التي وجد فيها ضالته. إذ أنه انتقل من الرسم بالحجارة والثوابت الملموسة إلى الرسم بالأفكار والتنظير للظواهر الروحية والمادية والاجتماعية، وسبر غورها واستخلاص الدلالات والنتائج.
ولا شك في أن لكل منا فهمه لماهية الفلسفة، بل أن البعض عندما يرى أنك تكثر من الكلام، يقول لك: “ياخي خلي الفلسفة والكلام الفارغ ده!” ولا شك في أن قصة الفلسفة قصة طويلة، ولذا ذهبت إلى “ويكيبيديا” كما نفعل هذه الأيام لكي أرى ما تقوله عن الفلسفة. وهذا ما وجدته:
(الفلسفة ) مشتقة من اللفظ اليوناني φιλοσοφία فيلوسوفيا، وتعني حرفياً “حب الحكمة”) هي دراسة المشاكل العامة والأساسية التي تتعلق بأمور كـالوجود، والمعرفة، والقِيَم، والعقل، واللغة. من المرجح أنّ الفيلسوف وعالم الرياضيات فيثاغورس مبتكر ذلك اللفظ. المنهج الفلسفي يتضمن التساؤل، والمناقشة النقدية، والجدال بالمنطق، وتقديم الحجج في نسق منظم. من أمثلة الأسئلة الفلسفية التساؤل عن إمكانية معرفة أي شيء وإمكانية إثبات تلك المعرفة، عن الوجود وعمّا هو موجود حقاً، عن الصواب والخطأ، عن كيفية عيش حياةٍ ذات معنى، وعمّا إذا كان الإنسان مخيّراً أم مسيّراً[1].
وكما نعلم نحن في بلاد الإسلام، فإن هنالك تاريخا طويلا من الحوار والنقاش، بل والصراع حول موضوع الفلسفة وعلاقتها بالتدين والتأمل والتفكر والتدبر، وبالجبر وحرية الاختيار، وما إلى ذلك من قضايا حيوية ومصيرية. وليس هذا موضوع هذا المقال، وإنما هذه مجرد “تخريمه” لمن أراد الاستزادة من هذا الموضوع الشيق، والتعامل معه بعقل مفتوح.
وموضوع العقل المفتوح هذا هو موضوع هذا المقال. إذ أنني منذ أن عرفت صديقي عوض كان من أول الأشياء التي لفت نظري وكانت سببا من أسباب صداقتنا الطويلة، هو ذلك العقل المنفتح علي كل مصادر المعرفة والشغف بالقراءة والاطلاع، وإخضاع كل الأمور للبحث والتمحيص، وتناول الأمور من زاوية خاصة، قد تثير الدهشة والاعجاب، وربما التساؤل والحيرة من قبل أولئك الذين لا يعرفونه، وربما يتهمونه بعدم الجدية في بعض الأحيان. وترتبط تلك الحالة الذهنية كذلك بالكثير من السخرية اللاذعة، التي قد يفسرها البعض بأصوله “الشايقية”، ولكني لا أميل الي التفسيرات الاثنية للظواهر التي ترتبط بالذكاء، أو سرعة البديهة. فهذه ظواهر شخصية تجدها عند مختلف الجماعات القبلية والاثنية في السودان، حتي إذا زاد المعدل قليلا عند هذه الجماعة أو تلك. وهذه الصفات، سرعة البديهة والفكاهة، جعلت من عوض محبوبا بين أقرانه منذ أيام الجامعة واستمر هذا الأمر إلى ما بعد التحاقه بوزارة الخارجية وتدرجه في السلم الدبلوماسي إلى أن سار سفيرا يشار إليه بالبنان.
ومن صفات صديقي عوض الأخرى الشجاعة في إبداء الرأي، وربما ارتبط ذلك ببعض الحدة في التعبير عن رأيه، ممزوجا ببعض السخرية والاعتداد بالنفس. وهو من أنصار حرية التعبير، حتي وإن كانت علي حساب الذات. كما أنه يتميز ببعض المثالية التي تجعله في حالة دائمة من عدم الرضا والضيق بظواهر العجز والتقصير التي أصبحت من سمات العصر، لا سيما في السودان، مما يجعله يرى “الجبهة” في كل مكان. فعندما كان موظفا مرموقا في منظمة اليونيسكو في تسعينيات القرن الماضي، كان يرى أن روح “الجبهة” قد تقمصت المكان فصار، في رأيه، مرتعا لذوي الفكر المحدود والرأي المخروق، حتي وإن لم يكن ذلك ينطبق إلا علي القلة. وهو الآن يطبق نفس نظريته “الجبهوية” علي الظاهرة “الطرمبية” في الولايات المتحدة الأمريكية، التي يقول أن داء “الجبهة” قد انتقل إليها وأن الإدارة الجديدة تعج بنسخ عديدة من “ربيع عبد العاطي”، الذي يمثل في رأي عوض أقصى ما تفتقت عنه العبقرية “الجبهوية”.
ومن النظريات المحببة إلى صديقي عوض ما أسماه منذ زمن بعيد ب “الشيء السوداني”، قاصدا بذلك أن ثمة خللا أساسيا في الشخصية السودانية، إلا أنه نسبة لاستحالة تعريف ذلك الشيء وتحديد صفاته وأوصافه وكافة أبعاده، فإنه اكتفي بأن يسميه “الشيء السوداني”، تاركا للآخرين مهمة السهر والاختصام في تعريف ذلك الشيء.
وعوض لا يمكن أن يعيش دون فكاهة لاذعة، وله أسلوبه الخاص في ممارسة تلك الفكاهة. وقد ظل منذ سنوات عديدة يردد مقولة صديقه المرحوم الطيب صالح (أخذني عوض إلى المرحوم الطيب صالح في مسكنه في ويمبلدون في عام ١٩٧١ عندما كنت أحضر الدكتوراه في السوربون وكان الطيب صالح أحد الكتاب الذين تناولتهم بالبحث والدراسة في أطروحة الدكتوراة، وكانت أول ترجمة فرنسية لموسم الهجرة قد صدرت في نفس ذلك العام، وكان عوض حينها سكرتيرا ثالثا بسفارة السودان بلندن)، كان عوض يردد في السنوات الأخيرة مقولة صديقه المرحوم الطيب صالح: “من أين أتى هؤلاء الناس”. وهو ظل يردد منذ سنوات أن هؤلاء الناس “محرشين”، ولا أظن، حسب فهمي ومعرفتي لصديقي عوض علي مدى ما يزيد من نصف قرن من الزمان، أنه يقصد أن شخصا ما قد حرشهم، بل هو نوع من “التحريش الذاتي”، بل أنهم يحرشون بعضهم البعض ويعاونون بعضهم البعض علي تخريب السودان، حتي وإن ظنوا أنهم يحسنون عملا، وحتي إن صدقنا ما يقوله البعض من شاكلة: “صح مني العزم والدهر أبى” … ولا يختلف اثنان علي ما حل بالبلاد من خراب.
وخلاصة القول أن صديقي عوض “مفكر حر”، وهو يمثل الفكر الذي تحتاج إليه بلادنا للخروج من نفق الشمولية المظلم، ومن ربقة الرأي الواحد والفكر الواحد والحزب الواحد. وفي مثل حالة عوض لا تجدي محاكم الرأي والضمير، إذ أن حرية الرأي والفكر ستكون هي الغالبة، وهي اللبنة الضرورية لبناء مجتمع الغد، الذي هو مجتمع الحرية والديموقراطية والفكر الحر.
+++++
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. من طبيعة العمل الدبلوماسي انه لا يسمح لممتهنيه بالتواصل الحميم الا نادرا وذلك لتناوب الحضور والغياب بين الدبلوماسيين فيكون واحدهم بالسودان والأخر بالخارج فاذا عاد الى الوطن وجد أصحابه واحبابه يتهيأون للذهاب الى الخارج وهكذا كان بيني وبين السفيرين النابغين نور الدين ساتي وعوض محمد الحسن فلم يتح لناالوفاء لما بيننا من وشائج الا بعد انتهاء عملنا بالخارجية وبدأ بيننا ذلك التواصل الحميم الذي يكون بين المعاشيين من أبناء الكار أما “أبو النور” فقد افرد لشعري حيزا كبيرا جميلا في رسالته للدكتوراه التي نالها من السوربون وذلك على أيام السودان الذهبية الذاهبة واما السفير عوص فانه ابن مدينتي عروس الرمال وابن حي القبة الذي نشأنا معا فيه ولكن حقائق التسفار حرمتنا من بعضنا البعض الى ان داهمنا المعاش اختياريا او اجباريا وعند ذلك تهيأت لنا الفرص لترميم حبال الوداد ووصلها من جديد فألف شكر لك أيها المعاش والشكر أيضا لكل من تسبب فيه من وزراء وكبراء وعظماء بني الإنقاذ – هنيئا للاخوين العزيزين ما بينهما من الود والاعزاز ونحن بذلك جد سعداء إذ ان ذو الشوق القديم وإن تعزى مشوق حين يلقى العاشقينا

  2. من طبيعة العمل الدبلوماسي انه لا يسمح لممتهنيه بالتواصل الحميم الا نادرا وذلك لتناوب الحضور والغياب بين الدبلوماسيين فيكون واحدهم بالسودان والأخر بالخارج فاذا عاد الى الوطن وجد أصحابه واحبابه يتهيأون للذهاب الى الخارج وهكذا كان بيني وبين السفيرين النابغين نور الدين ساتي وعوض محمد الحسن فلم يتح لناالوفاء لما بيننا من وشائج الا بعد انتهاء عملنا بالخارجية وبدأ بيننا ذلك التواصل الحميم الذي يكون بين المعاشيين من أبناء الكار أما “أبو النور” فقد افرد لشعري حيزا كبيرا جميلا في رسالته للدكتوراه التي نالها من السوربون وذلك على أيام السودان الذهبية الذاهبة واما السفير عوص فانه ابن مدينتي عروس الرمال وابن حي القبة الذي نشأنا معا فيه ولكن حقائق التسفار حرمتنا من بعضنا البعض الى ان داهمنا المعاش اختياريا او اجباريا وعند ذلك تهيأت لنا الفرص لترميم حبال الوداد ووصلها من جديد فألف شكر لك أيها المعاش والشكر أيضا لكل من تسبب فيه من وزراء وكبراء وعظماء بني الإنقاذ – هنيئا للاخوين العزيزين ما بينهما من الود والاعزاز ونحن بذلك جد سعداء إذ ان ذو الشوق القديم وإن تعزى مشوق حين يلقى العاشقينا

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..