المهنة: محرر صحفي .. الأجر: (شقي فقط لا غير)

الخرطوم: مقداد خالد
مدخل:
(لم أكن أبكي. لكنَّ الأصحابَ كانوا يختفونَ في عينيّ كأضواءِ السيّاراتِ تحتَ المطر).
سوزان عليوان ? شاعرة لبنانية
(1)
حين انسلت أضواء الشمس صبيحة يوم أمس (السبت) مُذكِّرةً العالم بـ (اليوم العالمي لحرية الصحافة)؛ كان الكاتب الصحفي محمد الفكي سليمان ينسل إلى جوف طائرة الخطوط الجوية القطرية المتوجهة تلقاء الدوحة ليلتحق بسرب طيور الصحافة السودانية الذين تنازعتهم المهاجر. ذلك بالتزامن مع صور تسللت إلى صفحات (فيسبوك) وتنقل وداعية نظمت للزميل إبراهيم الجاك الذي يعتزم مواصلة مسيرته المهنية من قلب العاصمة السعودية (الرياض).
الهجرات المتزايدة لمنسوبي مهنة البحث عن المتاعب يلخصها (ود الفكي) في عبارة بليغة معطونة في السخرية، واعتاد أن يسبقها دوماً بامتداح تضحيات الزملاء وعدم ممانعته مواصلة العمل معهم في السلطة الرابعة بشرط أن يكون ذلك: (برة العمر).
(2)
يطل اليوم العالمي لحرية الصحافة؛ وصحافيو السودان يرزحون تحت وطأة ظروف اقتصادية ضاغطة، فجلهم ينال رواتب ضعيفة ليس بمقدروها تلبية أدنى متطلبات السوق المنفلتة، وبمعادلة ما ينالونه بالدولار الأمريكي نجد ما يتعاطونه يضاهي – في كثير من الأحوال- مبلغ الـ (5) دولارات يومياً، وهو أمر يفسر تعرض آمال كثير منهم لانتكاسة تحول ـ مثلاً- دون إتمام مراسيم زاوجهم، جراء العجز البادي عن الإيفاء بتغطية مطلوبات الزواج، دعك عن التكاليف التي تستتبعه ـ بالضرورة- من إيجار ورسوم وعلاج وغيره من بنود الصرف اليومية.
ويلقي الصحافيون باللائمة في تردي أجورهم على الناشرين بحسبانهم المستفيد الأكبر من العملية الصحفية، واضعين صناع الصحافة الحقيقيين في قاع سلسلة الأجور وما أدّل على ذلك من أحاديث صادمة ساقها رئيس تحرير الزميلة (الرأي العام) الأستاذ عادل الباز في ندوة عن واقع الصحافة وقال فيها إن الصحافي يأتي في آخر سلم أولويات الناشرين بعد (المطبعة، والإيجار، والجمارك، والنفايات).
تفسير آخر دفع به الباز لاستيطان الصحافيين في أبعد نقطة عن خزائن الصحف، ومتصل بحمله وهو الذي كان يومها ناشراً لصحفية (الأحداث) على الصحافيين فقال عنهم: (ديل مشكلتهم كبيرة. مشكلة متمثلة في ضعف الانتماء للمهنة، والقنوط، وعدم التأهيل والقراءة، والجهل بالتقانة، والانغلاق والعزلة عن العالم الخارجي) وأردف مستعجباً: (صحافيينا ما بيقدروا يغطوا حاجة بالانجليزي)!!
ولكن خلافاً لتلك المقولات، فإن معظم العاملين في طاقم كبرى الوكالات العالمية العاملة في الخرطوم هم من المحررين الشباب، كما أن الأقلام المهاجرة في محلاتها الجديدة ما فتئت تحرز نجاحات باهرة، لا تخفى على أحد.
(3)
يؤسس وضع كتاب الرأي في الصحافة السودانية لحالة فريدة لا شبيه ولا مثيل لها، حيث ما تزال صحافتنا أسيرة عبارة (صحافة رأي)، ولذلك لا غرو أن يساوي راتب كاتب واحد في أخيرة إحدى الصحف أجر جميع العاملين في صالة تحريرها، وذلك بالرغم من استلافه جل كتاباته من مواد تحريرية مضمنة في دفتي صحيفة.
وخلافاً لواقع أسس فيه محررو الصحف أمجاد مؤسساتهم، ما يزال الريع الأكبر يذهب للكتّاب وهو أمر يفسره الزميل موسى حامد ضمن ما يسميه (لا معقولية الواقع الصحفي) راداً قولبة الوضع على أنها انعكاس بدهي للوضع المقلوب في المجتمع السوداني نفسه، مشيراً إلى أن عودة الوضع الصحفي إلى نصابه الصحيح يتطلب عودة المجتمع ذاته إلى مساره الصحيح وقال إنه ما لم يحدث ذلك فإن مسألة التفاوت الكبير بين أجور المحررين والكتاب (رزق الله في بلد الله).
(4)
أحد أبرز محطات العام 2013م الأليمة تمثلت في تحطم سفينة صحيفة (القرار) بُعيد عام من إبحارها في 17 أكتوبر 2012م. وعلى الرغم من تعرض صحف كثيرة للتوقف والتوقيف العام الفائت فإن توقف (القرار) شكّل فاجعة في الأوساط الصحفية كونها قضت على تجربة تأسيس صحيفة قوامها الصحافيون للانعتاق من ربقة الناشرين.
وخلال عام جالد طاقم (القرار) ظروفاً سيئة؛ اضطروا مجبرين في نهايات أكتوبر 2013م للتوقف عن الذهاب إلى المطابع والكف عن معانقة أعين القراء، ويعزو أحد المؤسسين للتجربة، الزميل رضا باعو؛ توقف التجربة لتضافر جملة من العوامل أهمها ما يراه حرب إعلان خفية قادتها أطراف لم يسمها وحجبت أهم مورد مالي في الصحف عن صفحات (القرار) التي أسست بتمويل أصغر وبلا رأسمال مدخور كما يحدث في كثير من الحالات.
واليوم فإن صحافيي (القرار) الذين تفرقوا أيدي سبأ، يرنون بافتخار للإرث الذي خلفوه وراءهم ظهريا، ولا يتورعون عن سب الظروف الاقتصادية التي احتوتهم ولولاها لاحتذى الجميع خطاهم في رد الحق إلى أهله، بينما ينظرون للمستقبل بعين الريبة فحال عجزوا عن تحصيل مبالغ الإعلان القليل الذي وصلهم وكاد أن يتحول إلى (دين هالك) فسيودعوا لا محالة السجون.
(5)
لمغالبة الواقع الاقتصادي السيئ يتفق الصحافيون في أن المخرج متمثل في تضامن صحفي حقيقي يكون بمقدوره مضاغطة الناشرين. هذا الحل قال به الزميل موسى حامد الذي يشكو من غيبة جسم ينافح عن حقوق المحررين المالية، ومنوهاً في الصدد إلى ميثاق أخلاقي -غير المكتوب- يحكم عمل الزملاء المصممين، ويتضمن اتفاقاً على حد أدنى من الأجور، وتضامن فعال يشمل الإضراب عن العمل في حال لجأت سلطات التحرير للمماطلة في أجور منتسبيهم.
(6)
الواصل إلى مقر محكمة العمل في حي (الديم) العريق، بمقدوره معرفة حجم الظلم الواقع على الصحافيين من أهليهم في قبيلة الصحافة، وبمقايسة ذلك بأجورهم المنخفضة لا غرابة في أن معظمهم يسعى لطرق باب الهجرة، ولذا حين طرق اليوم العالمي لحرية الصحافة بابهم بالأمس خالف ممسكو الأقلام المثل الذائع وهم يكتبون أنفسهم في زمرة الأشقياء.
الصيحة