ابن خلدون: ستيف الرعاة، سحسوح الحضارة (العقل الرعوي 7)

وجد الدكتور النور حمد في ابن خلدون، المؤرخ العربي التونسي المسلم من أصول أندلسية (1332-1402)، حجة عظمى على أطروحته بثنائية “الأنسية والوحشية” التي يتربص بها الرعاة أو العقل الرعوي بمعاقل الحداثة أو الحضارة لهدمها في خاتمة المطاف. وبد لي في استعانته بالمؤرخ العربي المسلم رعي جائر، تلاعباً بالألفاظ طالما ما كان الحديث عن الرعي. فلو صح نسبة ثنائية ما للرجل لكانت بين ستيف وسحسوح اللذين اخترعهما الفنان شبر على صفحات مجلة “الحياة” في الخمسينات. وكانت الثقافة السودانية قد بدأت في الانتباه، من جهة، لستيف الكاوبوي لتأثير السينما الأمريكية، ولسحسوح (الحنكوش)، من الجهة الأخرى، بجاه السودنة وبشارات نداوتها. بمعنى: ثنائية ابن خلدون كانت بين شكيمة الرعاة وخيابة الحضارة. وبينما حشد النور من ابن خلدون ما يصم الرعاة بالعنف والخراب حجب عن القارئ مآخذه الدامغة على تنعم الحضر المهلك. وأضاع النور بهذا الرعي الجائر لابن خلدون ديناميكية صراع الحضر والوبر في اقتصاد زمنهم السياسي مما هو الأساس في نظرته لتعاقب المُلك.
لابن خلدون رأي قوي أن الحضر مفسدة. فأهله يعانون من فنون من الملاذ لونت نفوسهم بكثير من مذمومات الخلق. فذهبت منهم مذاهب الحشمة في أحوالهم. ومكنوا للوالي وللحامية من أنفسهم لانغماسهم في النعيم والترف، تاركين المدافعة لهما، مستنيمين إلى الأسوار التي تحوطهم. ومتى تسيد حاكم صار الإذلال له جبلة فيهم. فإن أعمل فيهم القسوة كسر سورة بأسهم. فتذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة. فتهتكوا وفشت فيهم الفواحش قولاً وعملاً. والبدو عنده خلاف ذلك. لم يَكِلوا المدافعة عنهم لغيرهم. فعيشهم متفرد في القفر والبيداء وبأسهم شديد. الشجاعة سجيةً فيهم يرجعون إليها متى دعاهم داع، أو استنفرهم صارخ. ومن رأيه أنه حتى انصراف الحضر إلى العلم باب في الليونة والاستخذاء. فجاءهم التعليم من تناقص الدين فيهم فأخذوا بعلم الأحكام الوازعة، ثم صار الشرع علماً وصناعة. وأخذوا بالتعليم والتأديب مما طبعهم على خلق الانقياد إلى الأحكام السلطانية. والبدو بمعزل من هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السلطان والتعليم والآداب.
لمّا تغاضى النور عن سحسحة (حنكشة) الحضر انحجبت عنه دورة التعاقب التاريخي التي استنها ابن خلدون. وهي صدى من قول أكرم من قائل: “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول”. فلا تجد الرعاة والحضر عند ابن خلدون في ثنائية متباغضة من الوحشية والصقل كما صور لنا النور. خلافاً لذلك ترى رعاة انقلبوا على ملك تردى في النعيم، واستأثر ب”الفائض الاقتصادي” كما نقول، وظلم وبغى، وفسدت عصبيته التي ملك بها أول مرة، فنفذ إليه ثوار الرعاة من الهامش.
وخلص ابن خلدون إلى نظرية في المُلك هي أنه يدول من جماعة ذات عصبية إلى أخرى في نهاية الجيل الرابع منها أي خلال 120 عاماً. فتزول الدولة القائمة في الجيل الرابع لتعقبها أخرى تنقضي في جيلها الرابع أيضاً. وهكذا دواليك. وسمى هذه الدورة بتردي الدولة من الفتوة إلى الهرم كما حال البني آدم.
فالطور الأول طور الاستيلاء على الملك. والحاكم فيه أسوة بقومه لا ينفرد دونهم بشيء لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب، وهي لم تزل بعد بحالها. ثم يبدأ العد التنازلي للدولة في الطور الثاني. فهو في قول ابن خلدون طور استبداد الحاكم على قومه، والانفراد دونهم بالملك، فيمكن لبيته خاصة، ويتخذ الموالي فيتفرق قومه أهل عصبيته عنه ويعادونه. فتهتري العصبية التي كانت الأساس في انتزاع الدولة. فيحل الموالي الحاشية محل أهل عصبية الحاكم الأصل. أما الطور الثالث فهو طور السفه. فيسود تشييد المباني الحافلة، وإجازة الوفود من أشراف الأمم، ووجوه القبائل، وبث المعروف في خاصة أهله، هذا مع التوسعة على صنائعه وحاشيته وجنده في أعطياتهم. وقال إن الدولة تبدأ في هذا الطور بالإفلاس لا يفي دخلهم بخرجهم. فالغني منهم يترف والفقير منهم يهلك. وهو طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك، فيستفرغ وسعه في الجباية، وضبط الدخل والخرج، وإحصاء النفقات، والقصد فيها، وتشييد المباني الحافلة. والطور الرابع هو طور هرم الدولة والتبذير. ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفاً لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته. وهو طور ذهابها.
ويرى النور في زوال مثل هذا المُلك الباغي المتهتك رعوية خشونة. فكأنه بهذا يصادر حق طلب العدل على الناس. فمن طلبه من الدولة يأثم كراع مخرب. فللرعاة في رأيه منظومة قيمية قتالية متمحورة حول العصبية ومحصلاتها لا تمتثل للعدالة وحكم القانون ومراعاة القيم. وهكذا رخّص النور للحضر في ظلم الوبر. فيأخذ الملك ما بيدهم لتعيش صفوة متحكمة في الملذوذات. وخلافاً للنور فثورة الرعاة مباركة من ابن خلدون لأنه من باب الإباء ورفض الانقياد للظلم. وهو انقياد يحصل من من الإذعان للمغارم والضرائب تفرضها الدولة. فهذه الجباية عنده “ضيم ومذبة لا تحتملها النفوس الأبية إلا من ضعفت عصبيته”. ومن ضعفت عصبيته هم أهل الحضر. اما البادية فلا. فهي التي تخرج لتقضي على المُلك في جيله الرابع لتبدأ دورة أخرى من تداول الملك.
النور سيء الظن بالمادية التاريخية. وكان استنكر ماركسية تعقيبي على أوائل كلماته عن العقل الرعوي الذي به تصير البنية الفكرية انعكاساً لبنية المعاش. ولو قرأ ابن خلدون بأفضل مما فعل لوجده مادياً يقدم تدافع المعاش الذي تتولد عنه قيم البداوة والحضر معاً. وهو هنا بحلاف النور الذي يفرغ ثنائية الوحشية والإنسية من صراعات المعاش لتصبح جر حبل فكري منبت عن الأرض معلق في الأثير. ومن فرط اقتراب ابن خلدون بماديته من المادية التاريخية لم يجد مؤسس للنظرية مثل فردربك إنجلز حائلاً دون الوقوف على كتفه العالي ليطل على مشهد الإسلام كما جاء في مقال قيم بسيط لنكولس هوبكنز نشره في مجلة “ألف” نعرضه في كلمتنا القادمة.
أنظر المقال هنا:
Nicholas S. Hopkins, Engels and Ibn Khaldun, Alif: Journal of Comparative Poetics, (1990), pp. 9-18.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. رحم الله الدكتور عبدالله الطيب وما احكم رايه في ابن خلدون : ” كان رحمه الله مزيجا قذا من اقامة الحجة وتدليسها “ابن خلدون افتخر بان تغير الاحوال لم يخدعه قط” وراينا بام اعيننا كيف حدعه تداول السلطة حين تحولت الي مؤسسات راسخة واصبح البدو والخضر كتلة متجانسة رغم تنوعها .. اذابت صناديق الانتخابات وحشية البدو وتنعم الحضر ببساطة لان الظروف تخدع كائنا من كان لا مراوغة وانما تطور انسانية البشر يحكم بذلك .. لا اذري لماذا يريد عبدالله ان يحشر كل الافق الانساني بكل تعقيداته في كوة لاتناسبه فقط لان من صنعها هو ابن خلدون ! ولماذا يريد ان يحشر كل واقعنا السوداني في اكاديميات فقط لانها في راس بروف هو عبدالله علي ابراهيم !!

  2. ومشكور يادكتورأيضا على ” البشارة” بأن دولة الإنقاذ ستزول بعد أقل من 100 سنة ، على وجه الدقة 92 سنة بس ، حسب نظرية ابن خلدون التي تفضل بعرضها الأستاذ الدكتور .(وخلص ابن خلدون إلى نظرية في المُلك هي أنه يدول من جماعة ذات عصبية إلى أخرى في نهاية الجيل الرابع منها أي خلال 120 عاماً ).

  3. رحم الله الدكتور عبدالله الطيب وما احكم رايه في ابن خلدون : ” كان رحمه الله مزيجا قذا من اقامة الحجة وتدليسها “ابن خلدون افتخر بان تغير الاحوال لم يخدعه قط” وراينا بام اعيننا كيف حدعه تداول السلطة حين تحولت الي مؤسسات راسخة واصبح البدو والخضر كتلة متجانسة رغم تنوعها .. اذابت صناديق الانتخابات وحشية البدو وتنعم الحضر ببساطة لان الظروف تخدع كائنا من كان لا مراوغة وانما تطور انسانية البشر يحكم بذلك .. لا اذري لماذا يريد عبدالله ان يحشر كل الافق الانساني بكل تعقيداته في كوة لاتناسبه فقط لان من صنعها هو ابن خلدون ! ولماذا يريد ان يحشر كل واقعنا السوداني في اكاديميات فقط لانها في راس بروف هو عبدالله علي ابراهيم !!

  4. ومشكور يادكتورأيضا على ” البشارة” بأن دولة الإنقاذ ستزول بعد أقل من 100 سنة ، على وجه الدقة 92 سنة بس ، حسب نظرية ابن خلدون التي تفضل بعرضها الأستاذ الدكتور .(وخلص ابن خلدون إلى نظرية في المُلك هي أنه يدول من جماعة ذات عصبية إلى أخرى في نهاية الجيل الرابع منها أي خلال 120 عاماً ).

  5. سعادة الدكتور;عبدالله
    سلام على من إتبع الهدى..
    ,,وبعد;;;
    -فإن إبن خلدون ما نزل من السماء.

  6. شكرا للدكتور النور حمد علي طرحه وشكرا للبرف عبدالله في رده باستناره ودسم الكلام حتي الشبع بدسم الفكرة بالاشعاع العقلي والوجداني غير انووي والتفكر في احوال التاريخ ينصف ابن خلدون واقربها الاندلس زالت حين بلغت السحسحه مبلغ جعلت اخر ملوكها في حضن وهي تقول (لاتبكي كالنساء علي ملك لم تحافظ عليه كالرجال ) وشئ من هذا يجري مظهره في السودان لحد الخوف عليه وشكرا كثيرا …فقط انوه الي ان السحسوع قديما من ميوعته حضريا اطلق ايضا علي احد منتجات الراحلة شركة باتا فقال الحضر انه (السحسوح ) وقلنا عنه في الشمال علي الاقل ( الحننو ) تري لو استمرت باتا كنا نجد اخر (حنكوش ) وكانت اغنية اصحاب النزعات في الرحلات الحضرية يغنوا (يا سحسوح جيناك وجينا نسحسح بوراك ) !!!فهل يا تري تذهب الانقاذ بالحنكشه كما ذهبت الديمقراطية الثانية بالسحسحة ) !!!

  7. ابن خلدون شعوبي عنصري والمقدمة مجرد كتاب معفن
    انتم لا تجرءون على مخالفة الغرب فطالما اعتبروه ابو علم الاجتماع تغاضيتم عن سبه لسود البشرة وكراهيته للعرب ورفعه من شأن البربر وترويجه للسحر وقلتم آمين
    ولو انهم دخلوا جحر ضب لدخلتموه
    وابن خلدون غلب الجوانب الاقتصادية ومعايش الناس على تاثيرها في قضايا العمران ليس لانه كان ماديا فالرجل كان مؤمنا بوجود قوى غيبية خارج اطار الحواس وهو قادم من بيئة وثنية يبدو انه كان يعشقها ، وكتب والمجمع المغاربي كله في مرحلة تحول الى الاسلام ولذلك فالقول بان الرجل كان على معرفة بالمادية التاريخية قد تأخذنا باتجاه انه سبق ماركس في اكتشافها .

  8. سعادة الدكتور;عبدالله
    سلام على من إتبع الهدى..
    ,,وبعد;;;
    -فإن إبن خلدون ما نزل من السماء.

  9. شكرا للدكتور النور حمد علي طرحه وشكرا للبرف عبدالله في رده باستناره ودسم الكلام حتي الشبع بدسم الفكرة بالاشعاع العقلي والوجداني غير انووي والتفكر في احوال التاريخ ينصف ابن خلدون واقربها الاندلس زالت حين بلغت السحسحه مبلغ جعلت اخر ملوكها في حضن وهي تقول (لاتبكي كالنساء علي ملك لم تحافظ عليه كالرجال ) وشئ من هذا يجري مظهره في السودان لحد الخوف عليه وشكرا كثيرا …فقط انوه الي ان السحسوع قديما من ميوعته حضريا اطلق ايضا علي احد منتجات الراحلة شركة باتا فقال الحضر انه (السحسوح ) وقلنا عنه في الشمال علي الاقل ( الحننو ) تري لو استمرت باتا كنا نجد اخر (حنكوش ) وكانت اغنية اصحاب النزعات في الرحلات الحضرية يغنوا (يا سحسوح جيناك وجينا نسحسح بوراك ) !!!فهل يا تري تذهب الانقاذ بالحنكشه كما ذهبت الديمقراطية الثانية بالسحسحة ) !!!

  10. ابن خلدون شعوبي عنصري والمقدمة مجرد كتاب معفن
    انتم لا تجرءون على مخالفة الغرب فطالما اعتبروه ابو علم الاجتماع تغاضيتم عن سبه لسود البشرة وكراهيته للعرب ورفعه من شأن البربر وترويجه للسحر وقلتم آمين
    ولو انهم دخلوا جحر ضب لدخلتموه
    وابن خلدون غلب الجوانب الاقتصادية ومعايش الناس على تاثيرها في قضايا العمران ليس لانه كان ماديا فالرجل كان مؤمنا بوجود قوى غيبية خارج اطار الحواس وهو قادم من بيئة وثنية يبدو انه كان يعشقها ، وكتب والمجمع المغاربي كله في مرحلة تحول الى الاسلام ولذلك فالقول بان الرجل كان على معرفة بالمادية التاريخية قد تأخذنا باتجاه انه سبق ماركس في اكتشافها .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..