خطاب الوثبة والفيل الهندي

عمر الدقير

في الحكاية الهندية الشهيرة عن الفيل والعميان الذين سقطوا عليه تضيع حقيقة وجود الفيل ولون بشرته وحجم جسده بين إفادات العميان، لأنَّ من سقط منهم على الذيل وصف الذيل فقط ومن سقط على الناب اكتفى بوصف الناب، ومن سقط على الخرطوم تصوَّر أنَّ الفيل كلَّه مجرد خرطوم .. وإذا كانت هذه الحكاية تعبير عن ضياع الحقيقة، فإنَّ الخطاب الرئاسي الأخير، الذي خلط حابل “الوثبة” بنابل “الأحابيل”، جاء أبلغ تعبيراً عن ضياع الحقائق كلِّها.

لقد شغل ذلك الخطاب الناس، لكنه لم يملأ الدنيا .. تسمَّر ملايين السودانيين أمام شاشات التلفزة وهم يأملون أن يسمعوا نقداً ذاتياً شجاعاً وصادقاً باعتباره أول شرط للإصلاح الموعود، فلم يجدوا غير عزةٍ بالاثم وجفولٍ عن الاعتراف بالخطايا واستكبارٍ عن الاعتذار عنها .. وانتظروا حتى آخر كلمةٍ في الخطاب علَّه يشير إلى مجرد إعلان عزم النظام على القيام بإجراءات ملموسة يفارق بها نهج الإستحواذ والإقصاء ووَهَم المعصومية ويحقق بها مطلوبات الحوار السياسي الشامل لوضع الوطن على سكة الخلاص وعبور مستنقع الأزمات بإرادة جماعية، فلم يجدوا غير حذلقةٍ لفظية وتخليطٍ مشين وتعميمٍ تضليلي أريد به تجريف الحقائق حتى يبدو الراهن المأزوم، في كلِّ جوانبه، وكأنَّه منقطع الجذور عن مسيرة أكثر من عقدين من الحكم العضوض ولا يتحمل وزره أحد.

لقد راهن من صاغ ذلك الخطاب على استخدام التعابير الإنشائية وغريب الكلام لترميم فجواته ناسياً، أو متناسياً، أنه ما من سبيلٍ لصرف الناس عن هذه الفجوات إلى سحر البيان عندما يبلغ الاشتباك في نفوسهم ذروته من أجل التغيير وإعلان العصيان على الواقع الغاشم الذي يحتويهم .. وكانت النتيجة أن جاء الخطاب كاريكاتورياً لا ينافسه في ذلك إلَّا تلك النصوص التي صاغها الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش تحت عنوان “خطب الديكتاتور الموزونة” .. ولعلَّ تعبيراً مثل: “هذه الوثبة ليست، ولا ينبغي لها أن تكون حزبية محضة، لكنَّ الحزب يرى أنَّ الوقت قد نضج لوثبة سودانية وطنية شاملة طموحة ولكنها ممكنة”، يبدو في ضوء الواقع وكأنَّه مأخوذ من المقطع الكاريكاتوري الذي يقول فيه درويش على لسان الديكتاتور:

أقولُ لكمْ ما يقولُ ليَ الحزب، والحزبُ فوقَ الجماعة
سَنقفِزُ فوقَ المراحلِ عَصْراً وعصرَيْنِ فى كلِّ ساعة
لنبني جنةَ أحلامِنا اليومَ في نمطٍ من مجاعة
إذا الشعبُ يوماً أرادْ
فلا بدَّ أنْ يستجيبَ الجرادْ
فهيا بنا أيها الكادحونَ وصُنّاع تاريخِنا الحر، هيا بنا
فإنَّ القيادةَ حُبْلَى بما يجعلُ الأرضَ خضراء
حطوا الشِّعارَ وراءَ الشِّعارِ وراءَ الشِّعارْ
وهُزُّوا الشِّعارَ ليسَّاقط الوعيُ فكرة
تُديرُ المصانعَ والثورة المستمرة
سَنصْمُدُ حتى تجفَّ المياهُ لآخر قطرة
وحتى يموتَ الرغيفُ الأخيرُ لآخرِ كسرة
فموتوا، كما لم يمُتْ أحدٌ قبلكم
ولا تسألوا الحزبَ: من أجلِ أيَّةِ فكرةٍ نموتْ؟

وكان طبيعياً أن يُقابَل الخطاب بسيلٍ من التعليقات الساخرة بصورة تُذكِّر بما كتبه جورج لوكاتش عن السخرية كوسيلة مقاومة تهدف إلى تسفيه الطغيان وفضح عريه وكسر هيبته المصنوعة .. وإن كانت هناك ثمة فائدة لهذا الخطاب غير ما أتاحه للسودانيين من فرصةٍ للسخرية والضحك، ولو على طريقة “شر البلية ما يضحك”، فقد فضح عجز النظام وحيرته وذهوله عن الواقع، مثلما أثبتَ أنَّ أوبته إلى اعتبارات الرُّشد السياسي والوازع الضميري والمسؤولية الوطنية حلمٌ بعيد المنال ولو كره المتهافتون، مِمَّا لا يترك لقوى التغيير من خيارٍ سوى أن يغادروا محطة إسناد ظهورهم إلى الحائط والاكتفاء بالمراقبة وأن يندفعوا إلى نشيدهم الخاص مستلهمين موروثهم النضالي من أجل الخلاص، وليس بعيداً عنهم هبة سبتمبر الماضي التي كانت قاب مظاهرتين أو أدنى من بلوغ غايتها.

الواقع السوداني ليس فيلاً هندياً .. وإذا كان خطاب الوثبة قد أوغل في الغموض المتعمد وأخذ الناس إلى مذاهب شتى في تفسيره، فإنَّ الواقع شديد الوضوح، هو باختصار استباحة الوطن بثنائية الاستبداد والفساد وما أنتجته من محاصيل العناء والشقاء .. والسوداني الذي ينهشه هذا الواقع ليس أعمى، لكنه يحاور شروطاً قاسية في مقدمتها لهاثه اليومي كي يستمر على قيد البقاء ولو في حدِّهِ العُضوي الأدنى وتعرضه لقصفٍ متواصل من متعهدي التيئيس والواقعية الزواحفية بواسطة آلة إعلامية ينهمر منها التضليل والتجهيل وكافة مضادات الوعي وأمصال التَّدجين، وليس آخرها حالة الضعف والتشرذم والتيه التي تعيشها النخبة المعارضة وعجزها عن المبادرة وانحباسها في خانة رد الفعل.

وأيَّاً كان الأمر، ما مِن شعبٍ ظلَّ في غيبوبةٍ للأبد، وما تاريخ الشعوب إلاّ جَدَلٌ مُحْتِدمٌ بين التحدِّي والإستجابة، ولا بدَّ لتراكم الظلم والحرمان من الحقوق أن يفرز تلك “اللحظة التاريخية” التي لا تترك للعصفور خياراً سِوى الانقضاض على الأفعى بعد أن التهمت صغاره وحاصرته في العُشّ .. أمَّا المتهافتون الذين اختاروا تلبية دعوة الاحتشاد في قاعة الصداقة ليلة إلقاء الخطاب مُمَنِّين النفس بشلوٍ من أشلاء الغنيمة، فهُم وما اختاروا .. فقط عليهم أن يكفُّوا عن محاولة اقناعنا بانتظار شَهْد الحرية والعدالة من يعاسيب الاستبداد والفساد.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. “السجون” مليئة بالمعتقلين والمعتقلات والسبب اختلاف الراي …..الحريات العامة “مصادرة” …..الصحف الحرة ممنوعة…..الافواه الحرة مكممة….
    الندوات السياسية لا تتعدي مساحتها حيبشان السجون والمعتقلات بل اكثر ضيقا ومن داخل الجدران لا تتعداه ابدا في الهواء السوداني …..تلك هي وثبتهم وحوارهم وانفتاحهم علي الاخر …..القتلة يتبخترون في بوادي السودان وارواح الشهداء الابرياء لم ترتاح في قبورها مطالبة بالقصاص من من قتلهم خسة وقدرا …..تلك هي وثبتهم وانفتاحهم علي الاخر …..وهم يرون انهم هم الاصلح لادارة البلاد …..
    فيق يا بلد…… انهم كاذبون

  2. برافو
    يذكرنى خطاب الوثبة بقصة فرعون وقلة عقله : عندماغشه الخياط وجعله يخرج عاريا يتمخطر امام الناس معتقد انه يلبس افخر الثياب

  3. إذا الشعــب يومــا أراد الحيــاة فلا بـــد أن يستجيب القــدر

    ولا بـــد لليــــل أن ينجلـــي ولابـــــد للقيـــــد أن ينكســـــر

    ومن لم يعانقــه شــوق الحيــاة تبخــر فــي جوهــا واندثـــر

    كـــذلك قالــت لــي الكائنــات وحدثنـــي روحهــا المستتـــر

    ودمدمت الريح بين الفجاج وفــوق الجبــال وتحــت الشجـــر:

    إذا ما طمحت إلى غايـــة ركبــت المنـــى ونســيت الحـــذر

    ومن لا يحب صعود الجبــال يعش ابــد الدهــر بيــن الحفــــر

    فعجت بقلبي دماء الشباب وضجت بصــدري ريـــــاح أخـــــر

    وأطرقت أصغى لقصف الرعود وعزف الريــــاح ووقـــع المطـــر

    وقالت لي الأرض لما سالت: يا أم هــل تكرهيــن البشــر ؟:

    أبارك في الناس أهل الطموح ومن يستلـــذ ركــوب الخطــر

    وألعن من لا يماشي الزمان ويقنع بالعيش ، عيش الحجــر

    هو الكون حـي يحــب الحيـتاة ويحتقــر الميــت مهمــا كبــر

    وقال لــي الغــاب فـي رقــــة محببـــة مثــــل خفـــق الوتـــر

    يجيء الشتاء شتــاء الضبــاب شتـــاء الثلــوج شتاء المطــر

    فينطفئ السحر سحر الغصون وسحر الزهور وسحـر الثمـــر

    وسحر السماء الشجي الوديع وسحر المروج الشهي العطر

    وتهوي الغصـــون وأوراقهــــا وأزهـــــار عهـــــد حبيــب نضــــر

    ويفنــى الجميــع كحلــم بديــع تألــق فــي مهجــة واندثــــر

    وتبقـى الغصــون التــي حملــت ذخيــرة عمــر جميــل عبــر

    معانقة وهي تحــت الضبــاب وتحــت الثلــوج وتحــت المــدر

    لطيف الحيــاة الذي لا يمــل وقلــب الربيــع الشــذي النضــر

    وحالمــة بأغانــي الطيــور وعطــر الزهــــور وطعــــم المطــــر

    قصيدة أبو القاسم الشابي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..