العنف البعيد

أمير تاج السر
جلست مرة أستمع إلى عدد كبير من الأغنيات التراثية المحلية، التي يسمونها أغنيات الحماس، وتستقطب عددا كبيرا من المستمعين والراقصين على موسيقاها، والمشاركين بترديد كلماتها مع المغنين إن صادف ورددوها في أعراس أو مناسبات وطنية أو حكومية.
كان ما يلفت النظر في تلك الأغنيات كلها، وبعضها استخرجها مغنون كبار من بطن التراث، وعرضوها للناس في إيقاعات حديثة، وبعضها صيغ على وزن الأغنيات التراثية لمدح زعيم أو رئيس معاصر، بإيهام أنه يُمدح بإلهام قديم، من عمق بعيد في التاريخ.
ما يلفت النظر في تلك الأغنيات حقا، أن البطل المبجل فيها والممدوح بكل صفات القوة والمروءة والكرم، لابد سافك للدماء، إما في حروب عشائرية تنشب بين حين وآخر، هنا وهناك، أو غارات غير منطقية يشنها مع قومه ضد أقوام آخرين، البطل لا بد قد جز عشرات الأعناق بسيفه، نخر مئات البطون بحربته، ولا بد ملأ سروج الأحصنة التي كانت تقل الرجال بالدم.
هنا أتساءل، من هم الأعداء الذين كان لا بد أن يموتوا بهذه الطرق العنيفة في أزمنة لم يكن فيها أصلا ما يغري بالعداوة؟ كان الناس بسطاء، ويفترض أنهم مسالمون، وأي مناوشات قبلية قد تحدث، يوجد الكبار الذين يمكن أن يقللوا من شأنها، ويضعوها في درب السلام، بين ليلة وضحاها؟ ويمكن أن يضمدوا الجروح المعنوية، إن كانت ثمة جروح معنوية حدثت.
من الذي يستحق أن يجز عنقه؟ ويملأ الدم المتقاطر من قلبه سرج الجواد الذي كان يقله، وهل فعلا تملك اليد التي تذبح بهذا العنف، شيئا من العطف والحنان للصغار الموجودين في البيوت ينتظرون النصر؟ والدفء العاطفي للنساء اللائي يجهزن زغاريدهن انتظارا لعودة القتلة الظافرين؟
الأغنيات تقول للبطل أنت سافك للدم هناك في البراري، والغابات، والساحات المغبرة، وصاحب قلب طيب وحنون ودافئ وعطوف وكريم، حين تصافح النساء والأطفال. الأغنيات تمنح التناقض الأخاذ، فهي تمدح وتذم في الوقت نفسه، فلا يوجد من ينتهج العنف واللين في وقت واحد، وشخصيا كتبت عن القتلة السايكوباثيين، أي الذين يولدون وجينات العنف في دمهم، هؤلاء كتبتهم كما وصفهم الطب النفسي، أي العلم الذي يشخص من دون عاطفة ولا إكراه، القتلة طراز جيني واحد بلا أي عاطفة، ولن يتبنى ذلك الطراز أي سلوك طيب مهما كان.
أفهم قوانين الحروب طبعا، وأن الناس قد يدافعون فيها عن أوطانهم أو أعراضهم أو ممتلكاتهم، وقد يضطر جندي مكلف بالمشاركة في تلك المهام إلى قتل عدو حاول انتهاك مقدس ما، لكن كما قلت عن تلك الأغنيات التراثية، إنها لم تكن في زمن فيه مكسب كبير من أجل كل ذلك العنف. إذن لماذا نحن محاطون بالعنف في الوقت الحالي؟ لماذا ثمة تفجير هنا، وفي مكان لا يغشاه إلا أشخاص طيبون وأبرياء، إما يتجولون بغرض التسلية أو يتسوقون، أو حتى يتداوون في مستشفيات وعيادات؟ وتفجير آخر هناك وفي صرح تعليمي فيه تلاميذ يبحثون عن المستقبل؟ لماذا الخناجر مشرعة في أي مكان، والكلمة البسيطة الطيبة، التي يمكن أن يقولها كاتب حريص على السلام والتمسك بمبادئ السلام التي تقرها كل الشرائع السماوية، يمكن أن تواجه بخناجر أولئك الغابرين في أغنيات التراث، ومستعدين لسربلة سروج الجياد بالدم؟
أنا أعتقد أن العنف الجزئي، طبع جيني أو وراثي كما أسلفت. لكن العنف بفوضاه الكبيرة، مبدأ يتعلمه كثيرون من أخطاء التراث، نحن نرقص في أبيات سربلة السروج بالدم، وقد لا نتحمس ولا نطرب ولا نتشنج، حين يردد أحدهم أغنية يناجي فيها حبيبة كامنة في القلب، أو يعلن عن صفحه عن جار نهب منه جملا أو عنزة تافهة، وهذه أغنيات لا نعثر عليها في العادة.
لا مانع من التحدث عن الشهامة والكرم، عن الأخلاق الجيدة في مواجهة الأصدقاء والأعداء على حد سواء، لا مانع من التغني بالعيون السود، والسيوف التي تحمل للزينة أو عند الأعراس في الليالي الكبرى والاحتفالات، والدفاع عن النفس عند الضرورة،. لا مانع من تشبيه عيني البطل بعيني الصقر، وقوته بالإعصار الذي يقتلع الأشجار من عروقها، وهيبته، بتلك التي عند الأسد شخصيا، من دون إقحامه في فعل مثل: ضرب وقتل وذبح.
إنها من قواعد التربية كما أظن، الاتجاه لثقافة السلام التي بها فقط يمكن أن تحل كل المشاكل التي نشاهدها اليوم ونقف عاجزين عن حلها. ومعلوم ما حدث في السنوات الأخيرة من تفكك دول عديدة كانت منارات للمعرفة، بسبب الحروب التي لا طائل من ورائها، العنف القديم في زمن التكنولوجيا، والإخوان المتقاتلون أنفسهم، ولا يعرفون لماذا يتقاتلون أصلا؟ الأوطان حقيقة مثل الأمهات، لها صدور تتسع لكل مواطن، أو حتى غريب أراد أن يقطن فيها، وبشيء من التسامح والأخلاق الجيدة، والقطيعة الجادة لما يرسله لنا التراث المحلي في كل البلدان من ومضات قاتلة، يمكن أن يعود النقاء ويعود الصفاء إلى شعوب طحنت وتكاد تنقرض من فعل العنف.
أخيرا أعرف أن كثيرين يرون في التراث الدامي صفحات مضيئة، ينبغي اتباعها، ولكنني بينت رأيي بعد أكثر من ثلاث ساعات من الاستماع المتأني لما قيل في مدح الأبطال وذم أعدائهم، الذين هم إما إخوانهم أو أبناء عمومتهم. لن أعترض على وصف البطولات ضد المستعمر، الذي كان يربض في صدر أوطاننا ذات يوم، فذاك شأن آخر.
القدس العربي
تسلم يا دكتور علي هذا التنوير المهم
أغاني الحماسة فعلا فيها تناقضات عجيبة في أفعال البطل
والامر والاسواء فيها تمجيد للقبيلة وفيها كلمات تحرض للعنصرية