العقل والمعقولية في فلسفة التحولات الاجتماعية

مدخل:
الفلسفة الوحيدة التي قدمت تصور للعقل من حيث البناء التشريحي ومنحت العقل والمعقولية معني كلي للحياة الإنسانية يشمل كل القيم الأخرى هي الفلسفة الغربية، ورغم تعدد مذاهب الفلسفة الغربية إلا إننا نجدها طوال تاريخيها تدور حول مذهبين وهما مذهب وضعي وما يقاربه في معناه ومذهب مثالي، فلا توجد فلسفة واحدة أو رؤية كلية فكرية واحدة عند الفلسفة الغربية ولكن توجد رؤى تدور كلها حول إنسان الثقافة الغربية بما فيها مفهومي العقل والمعقولية. فما يحكم تلك المذاهب وعي جيني يحرك النخب والمجتمع نحو ذات محددة وهو إنسان تلك الثقافة، ولذلك نجد حتى مفهوم العقل والمعقولية والمنطق هي مفاهيم تخدم إنسان الثقافة الغربية، فيعلي من قيم ذلك الإنسان ويمازج بينها وبين العلم فيخرج برؤية كلية تقول بالعقل والمعقولية ولكن جوهرها فيقول بالإنسان الغربي قيما وسلوكا.
اما الفلسفة العربية ورغم وجود مفهوم العقل داخلها إلا انه يأتي ثانيا بعد النقل، أي يأتي ثانيا بعد القيم والمحددات الكلية التي انشاتها النخب العربية كرؤية للثقافة العربية، ولذلك لا باس بمفهوم العقل اذا لم يتصادم مع النقل كما تقول تلك النخب.

فلسفة التحولات الاجتماعية والفلسفات الأخرى:
فلسفة التحولات الاجتماعية ليست فلسفة ثقافية تخضع في رؤيتها ومفاهيمها إلى ثقافة ما وتحاول ان تعلي من قيمها الذاتية ورؤيتها للحياة في مقابل فلسفات أخرى، ولكن فلسفة التحولات الاجتماعية ترى الثقافات كما هي وكما توجد في مرحلة تحولاتها تلك، وبالتالي هي تستوعب الثقافات كما هي في لحظة تحولاتها وتجاوب على الأسئلة الكلية لتلك الثقافات دون مقارنة مع ثقافات أخرى، فلا يوجد الإنسان المجرد الذي تسعي له كل الإنسانية ولكن يوجد الإنسان الذي يستطيع ان يحقق ذاته داخل مجتمعه الحقيقي وفق اللحظة التاريخية ووفق قيمه الذاتية دون ان يحتاج إلى استبدال تلك القيم بقيم من ثقافات أخرى، كذلك يمكن لفلسفة التحولات ان توضح قصور بعض القيم عن تلبية لحظة التحولات. ولذلك فمفهوم العقل والمعقولية وغيرها من المفاهيم لا تجد معناها الحقيقي إلا داخل ثقافة ما في لحظة تاريخية محددة فلا وجود للعقل النموذجي أو المعقولية أو المنطق للإنسانية ككل. ومن هنا تختلف فلسفة التحولات الاجتماعية عن الفلسفة الغربية التي تقول ان المحطة الأخيرة لشكل التطور هو ما يعيشه المجتمع والإنسان الغربي وان قيم الإنسان الغربي هي قيم نموذجية لبقية المجتمعات في الحياة الإنسانية، وكذلك تختلف عن الثقافة العربية التي تقول بان القيم العربية هي قيم نموذجية إلهية. فلا وجود عند فلسفة التحولات الاجتماعية لما هو نهائي أو نموذجي إلا وفق مجتمع محدد ووفق لحظة تاريخية محددة، وتختلف المجتمعات في تحولاتها لذلك تختلف في شكل القيم السلوكية التي تحقق بها إنسانيتها.

ماهية العقل:
لندرك العقل علينا أولا تبيان مكانته في الرؤية الكلية لفلسفة التحولات الاجتماعية، فما يقود الفرد ويدفعه في حياته الإنسانية هو الوعي الجيني والذي يستخدم السلوك لإظهار وتحقيق تلك الإنسانية، اما العقل فهو خاصية إنسانية وسيطة بين الوعي الجيني والخارج ويحاول من خلال أدواته وهي اللغة والذاكرة على العمل كموصل بين خارج الذات وداخلها وذلك بتعريف المحيط على الذات وتعريف الذات على المحيط.
فالعقل إذا خاصية إنسانية تحاول استيعاب الوعي الجيني وتقديمه للمحيط الخارجي والعكس وبالتالي إنشاء كلية إنسانية تشمل الوعي الجيني وأدواته المتمثلة في السلوك مع المحيط المتمثل في الإنساني والطبيعي، ولكن عند قصور العقل عن الاستيعاب الكلي يبدأ في إنشاء كلية زائفة لا تمثل حقيقة مرحلة التحولات التاريخية التي يوجد بها المجتمع، فينفرد الوعي الجيني بالسلوك ويتحول العقل إلى عقل تبريرى وليس استيعابي مما يولد حالة من التقاطعات الاجتماعية والفردية داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات.
فلا وجود لعقل ومعقولية ومنطق مجردة أي تمثل حالة إنسانية نموذجية أو مثالية ولكن العقل والمعقولية الحقيقية تتمثل في استيعاب التحولات الاجتماعية للمجتمعات كما هي وفق مرحلتها الآنية. وتستفيد المجتمعات من بعضها البعض في رؤية نموذج التحولات باعتبار ان الإنسانية في جوهرها عبارة عن كيان واحد في جوهرها الإنساني، وعدم محاولة مجاراة طريقة التحولات السلوكية فلكل مجتمع خصائصه الطبيعية والتاريخية في كيفية التحولات وفي انتاج قيمه الذاتية التي يستوعب من خلالها إنسانية أفراده.

التاريخ العقلي للإنسانية:
بدأت الإنسانية حياتها بالوعي الجيني فقط فقد كانت المجتمعات تمارس حياتها بناء على ما يخبره بها الوعي الجيني وتمارس السلوك المنتج من ذلك الوعي دون محاولة لاستيعابه فقد كان فائدة السلوك بتلبية إنسانية الفرد والمجتمع، ومع بداية الحياة بدا العقل يتلمس أولى خطواته ويحاول إيجاد مكانه في الحياة الإنسانية بالاعتماد على أدواته اللغة والذاكرة، ومع التحولات بدا يضعف دور الوعي الجيني ويقوى اثر العقل واشتد اثر أدواته في الاستيعاب والتبرير، ولكن للبداية الخاطئة للعقل واتجاهه نحو الذاكرة والمشاهدات فقط في التدوين والاستيعاب لم يستطيع ان يستوعب الوعي الجيني الذي كان بعيدا عن العقل وأدواته، ولذلك جاء استيعاب العقل قاصرا عن إيجاد تعريف كلية للحياة والإنسانية وأولها قصوره عن استيعاب الوعي الجيني وكيفية عمله، واتجهت النخب إلى مشاهداتها وأصبحت تستمد منها رؤيتها الكلية، ولذلك نجد الفكر في كل مجتمع متوافق مع ثقافته ولم تخرج النخب لتحاول ان ترى الإنسانية ككل وليس ثقافاتها فحسب.

مهمة العقل:
للعقل مهمة واحدة وهي الاستيعاب فلا ينتج العقل السلوك بل السلوك هو أداة الوعي الجيني، وليس مهمة العقل هي الابتكار أو الإتيان بجديد فلا وجود لذلك ولكن مهمة العقل هي مهمة استيعابية، أي عليه استيعاب المجتمعات وفق مرحلة تحولاتها الاجتماعية وان يقرر ما يتماشي مع تلك المجتمعات من سلوك وما تجاوزه الزمن ومرحلة التحولات الاجتماعية وأصبح عائق للتكامل المجتمعي.
ولكن نجد تاريخيا ان العقل انفصل عن إمكانياته تلك ولم يستوعب الذات الكلية للفرد التي تعبر عن وعيه الجيني، وأصبحت الإنسانية أسيرة التحول الأعمى وهو تحول دون إدراك ذاته وتاريخيه ومستقبله، ولكن حافظ الوعي الجيني من خلال أدته وهي السلوك على نسبة معينة من الانسجام بين أفراد المجتمع. ولكن مع استمرار التحولات أصبح العقل يمثل عبء سلبي على تلك التحولات في اتجاهه نحو ترميز المراحل التاريخية والقيم السلوكية والعلو بها خارج إطار المرحلة التاريخية وهو ما سبب المزيد من الضغط في المجتمع الواحد وبين المجتمعات.

اثر قصور الاستيعاب العقلي:
مما سبق يتضح ان قصور الاستيعاب العقلي يتسبب في إنشاء رؤية كلية زائفة عن المرحلة الحقيقية للتحولات وكذلك التمسك في بعض الأحيان ببعض القيم التي لا تتكامل مع الذات الكلية للمجتمعات، وبالتالي يتقاطع العقل مع الوعي الجيني الذي يبدأ في السعي إلى إيجاد سلوك يلبي إنسانية الفرد بغض النظر عن الرؤية الكلية التي تحكم الكل المجتمعي، كذلك يظهر أثرها على الفرد الذي لا يجد تعريف للكل الجيني الذي يحكمه فيلجا إلى العقل التبريري الذي يازم الحالة الإنسانية ولا يساعد كثيرا.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..