المحارب.. رواية.. الحلقة – 12

بات اشرف ليلته تلك وهو يتقلب على فراشه دون ان يغمض له جفن.. كان كل شئ حوله ساكن الا من اصوات الكلاب التى يشتد نباحها فى نوبات تاتى متقطعة، او صوت حمار ساءه عتمة الليل فعلا نهيقه المُنكَر إذ يأتى من هنا وهناك بين الفينة والاخرى.. تتداخل مع تلك الاصوات فى تناغم عجيب اصوات طلمبات الرى التى تحملها الرياح من جهة الشمال، فتشق هدوء الليل الساجى وتحرك بعضا من عصبه الساكن.. كل هذا واشرف مسهد يتقلب على فراشه وهو يناجى ويسامر النجيمات البعيدة التى يتلالأ بريقها اللامع فى محاولة يائسة لهتك استار الظلام.
كنا لا نزال فى بدايات شهر مارس اذ تهب الرياح من جهة الشمال جافة، تزداد جفافا وبرودة كلما اوغل الليل.. شعر اشرف بالبرد يسرى فى جسده، فالتحف بطانيته التى كان يتوسدها تحت رأسه، إذ لم يكن يعبأ بموجات البرد القارس، فاحاسيسه كلها كانت منصبة حول حنان التى اقتحمت حياته فجأة، وغزت قلبه الذى كان مشرعا، فولجته دونما استئذان.. كان تفكيره يدور حول كيفية الظفر بها، وماذا لو ان اباها رفض تزويجها اياه، خصوصا ان اباه وامه لم يطمئناه عندما عرفا رد عبد القادر فرجواه ان لا يتفاءل اكثر مما ينبغى، وطلبا منه ان يضع فى حسبانه ان عبد القادر من المحتمل ان يكون استحى ان يرفض صراحة، وانه احسن وفادتهم ربما فقط تقديرا للزيارة المفاجئة التى شرفوه بها، لا سيما والرجل مشهود له بالكرم.. كان كلما مر بهذا الخاطر انتفض كالملدوغ، وتحدث بصوت مسموع مرددا: لا لن يحصل هذا ابدا.
تمنع عليه النوم حتى الهزيع الأخير من الليل، فطيف حنان ما انفك يحلق حول سريره مناجيا، وصورتها التى انطبعت فى سويدائه واحتوتها ضلوعه استولت على كل تفكيره، فبات يحرس طيفها فى ليلته تلك، كأنه يخشى مجهولا سيأتى ممتطيا فرسه ويخطف منه ليلاه.
دعونا ندع اشرف يتقلب فى فراشه لنستصحبكم فى زيارة تلصصية الى منزل عبد القادر الشيخ لنصيخ السمع للهمس الذى دار بين اهل ذلك البيت السعيد حتى نقف على ما وصل اليه تاجر المواشى العنيد فى الطلب الذى تقدم به الصافى ود عبد الكريم قبل ساعات، والذى نقل فيه رغبة ابن اخيه اشرف بالارتباط بكريمته.
***
دخل عبد القادر على زوجته، وسألها بذهن شارد وهو يمد اليها بالصينية؛ اين حنان؟
لم تلاحظ بخيتة شروده، ردت عليه بغير اكتراث؛ انها كالعادة مع التلفزيون، واردفت فى استغراب؛ غريبة، ضيوفك لم يمكثوا طويلا!.
– اتدرى من هم ضيوفى؟ قال عبد القادر ذلك وهو يحاول التمهيد للافصاح عما يجول بخاطره.
– ردت بخيتة وهى تنظر الى زوجها باستغراب؛ لقد اخبرتنى من قبل، ألم تقل انهم الصافى ومحى الدين، واشرف ؟.. أنسيت؟.
– آه نعم، تذكرت، قالها عبد القادر وهو يحاول رسم ابتسامة مصطنعة على شفتيه حتى يدارى القلق الذى امسك بخناقه.
مرت دقائق من الصمت حاول عبد القادر خلالها ان يجمع شتات افكاره، اولى زوجته ظهره وقال لها ائتنى بحنان.. ذهبت بخيتة الى غرفة حنان، فوجدها عبد القادر سانحة لاعادة ترتيب افكاره.. جلس على اقرب سرير وجده امامه ثم استلقى على ظهره وهو يجول بناظريه فى سقف الردهة الواسعة، شرع يفكر فى طريقة يبدأ بها طرح موضوع الخطوبة على ابنته الوحيدة ذات السبعة عشر ربيعا، فهو لم يسألها رايها من قبل فى كل الذين تقدموا لها، لا لانه لم يكن مقتنعا بهم فحسب، بل لحاجة فى نفس عبد القادر قضاها، والآن وقد جاءه اشرف الذى يتمناه كل اب ان يكون زوجا لابنته، فكيف يبدأ الحديث حول هذا الموضوع، وماذا لو رفضت حنان.. أيجبرها؟ فهو يحبها اكثر من نفسه، ولم يخرج من هذه الدنيا بسواها، فماذا عساه ان يفعل ان هى اصرت على رفضها.
– حنان.. ابنتى.. صاح عبد القادر فى لهفة.. كيف دخلت دون ان احس بذلك؟
ضحكت بمرح وهى تقول: بالباب طبعا، ثم اردفت: لقد وجدتك مستغرق فى تفكير عميق ولم تحس بى، بل ولم تسمعنى وانا القى عليك بالسلام.
– وعليكم السلام.. اجلسى.
دخلت الى احدى الغرف وعادت تحمل فى يدها مقعدا بلاستيكيا، وضعته وجلست عليه قبالة والدها وقد علت وجهها الدهشة وهى تنظر اليه فى محاولة منها لاستقراء ما يدور فى خلده، ولما ان اعجزها ذلك، امسكت باصابع يده فى مودة وهى تقوم بــ (طقطقتها ).. نظر اليها وهو يبتسم فى مودة حقيقية، ثم اشاح ببصره وقال فى حنو: حنان، لقد جاء الوقت الذى يفترض ان يكون لك بيت منفصل..
– عفوا ابى، الى ماذا ترمى؟..
– ليس لدى الكثير الذى سأقوله لك.. ولكن اتمنى ان اراك عروسا.
– فاجأها كلامه فاطرقت فى خجل، وتسارعت دقات قلبها، فهى لم تعتد على سماع مثل هذا الحديث من ابيها قبل ذلك .. وتذكرت اشرف، فرقص قلبها طربا وازداد وجيبه وهى تربط بين زيارته قبل قليل وبين كلام ابيها، قالت فى تمنع ظاهرى وهى لا تزال ممسكة باصابعه: انا لم ازل صغيرة ابتاه..
سكت عبد القادر برهة قبل ان يقول بنبرة حاول ان يخفى فيها توتره: لقد تقدم اليك اليوم واحد من اعظم شباب القرية، فما رأيك؟.
– رأيى فى ماذا؟ قالتها حنان وهى تزدرد ريقها بصعوبة.
– فى الزواج طبعا!! قالها تاجر المواشى بنفاد صبر.
– قلت لك اننى لا زلت صغيرة.. وان كنت مصرا، فأنت وما تريد!!.
– جاءنى اشرف ود حامد بصحبة عمه الصافى وخاله محى الدين، وهم يودون مصاهرتى، وطلبوا منى هذه اليد الحريرية..
ما ان سمعت اسم اشرف، حتى احست بان قلبها قد بلغ حلقومها، إذ تسارعت دقاته بصورة محمومة فرط المفاجأة التى الجمتها، سافرت بخيالها وهى تسحب قبضتها من يد ابيها ثم حلقت فى سماوات فارسها الوسيم الذى يتفجر رجولة وفحولة، تخيلت نفسها بين يديه القويتين، وهو يحتضنها ويهمس لها بكلام الحب والغزل، واحست بخدر لذيذ يسرى فى اعضاء جسدها الظامئ، رجعت بذاكرتها الى خمسة سنوات خلت حينما رات اشرف يبتسم فى سخرية وتحدٍ مرفوع الراس وسوط العريس يلهب ظهره العارى وسط حلبة لا يستطيع الدخول اليها والثبات فى عرصاتها سوى الفرسان الاقوياء من ذوى العزيمة والشكيمة.. تذكرت ذلك الموقف الذى انحفر فى عقلها وكيانها جاعل من اشرف فارسا لاحلامها وهى لما تزل طفلة لم تبلغ سن الرشد بعد.. وان تنسى فانها لن تنسى بسمته الساحرة ساعة مد اليها بيده لينقذها من عثرتها يوم حادثة البحر، تلك البسمة التى سرقت قلبها واذابت مهجتها، حتى حرمتها نعمة النوم.
– لم اسمع منك رد.. قال عبد القادر ذلك وهو ينظر الي عينيها الساحرتين التين تلالأتا ببريق ساحر لم يشهده من قبل..
– حنان لا زالت صغيرة.. تدخلت بخيتة التى جاءت مسرعة من المطبخ، بعد ان سمعت ما دار بينهما من حديث.
– الراى عند حنان، وفى اعتقادى ان ليس هناك انسب من اشرف ابدا.. قالها عبد القادر بلهجة صارمة ثم استطرد وهو ينظر الى حنان، ماذا تقولين يا بنيتى؟ ايمكننى القول بان سكوتك هذا دليل على قبولك؟
– الرأى رايك أبى.. قالتها وهى تشيح ببصرها حياء، ثم نهضت مستأذنة بحجة ان لديها بعض الدروس التى تود مراجعتها، لا سيما والامتحانات على الابواب.
***
نهض اشرف على صوت صافرة النداء، وتحدث لصلاح الذى صحا لتوه قائلا : هيا يا صديقى لقد حان موعد الطابور.
رد صلاح بابتسامة باهتة وهو ينهض متثاقلا كغير عادته، لاحظ اشرف مسحة من الحزن تعلو صفحة وجهه، فسأل باستغراب: ما هذا العبوس الذى يرتسم على جبينك يا صديقى ؟
– حلمت حلما مفزعا.. حلم هو اقرب الى الكابوس.
– خيرٌ ان شاء الله..
– رأيت كانى اسير فى مفازة ضللت فيها طريقى، وبينا كنت اجدّ فى مسيرى على غير هدى، اذا بى اسقط فجأة فى بئر سحيق..
– السقوط فى البئر ظلم من ذوى القربى.. هكذا يقول ابن سيرين.
– لم ينته الحلم بسقوطى فحسب، ففى غيابت ذلك الجب، كان هناك حيات وعقارب جاءت واحاطتنى من كل جانب وهى تهم بمهاجمتى، ولما ان حاولت الصعود الى الاعلى صحوت على صوت الصافرة..
– انها مجرد اضغاث احلام، فلا تحفل بها كثيرا..
– لا اعتقد انها اضغاث، ما رايته شيء كان اقرب الى الرؤيا..
– هيا بنا.. لقد تاخرنا..
خرجا من الخيمة، وتوجها الى حيث انتظمت الصفوف بساحة المعسكر المترامية الاطراف، والتى فاضت بالمجندين حتى لم يكد يبقى فيها موطئ قدم..
انضما الى اقرب صف وجداه امامهما، قال صلاح بسخرية وهو ينتصب فى وقفة عسكرية: اين سيذهب كل هؤلاء العساكر بعد تخرجهم؟
– قال اشرف ضاحكا وهو يتفرس وجه صديقه العابس: الى الجنوب طبعا..
– لا أظن .. فالوضع فى الجنوب الآن اكثر هدوء من ذى قبل..
– أصحيح ان الحكومة والحركة توصلا الى اتفاق قد يفضى الى وقف اطلاق النار؟..
– ليس وقف اطلاق النار فحسب، بل حل قضية الجنوب حلا جذريا.. فقد قرأت فى صحف الخرطوم فى نفس اليوم الذى جئنا فيه الى المعسكر، ان اتفاقا اطاريا تم بين الحكومة والحركة سيكون نواة حقيقية لسلام دائم..
– ان لم تصدق النوايا فلن يكون هناك سلام حقيقى.. هنالك عدم ثقة بين الطرفين يجعل من السلام مجرد امنية يتغنى بها الحالمون..
– الطرفان وصلا الى قناعة بان لا بديل للسلام سوى السلام ..
– حدسى وقراءتى للاحداث يقولان بانه لايزال هنالك ضحايا ينتظرون على الرصيف، وسوف تثبت …. وقبل ان يتم اشرف عبارته سمع صوت التعلمجى وهو يصيح فى جمعهم:
انتبااااه.
انتبه الجميع، وكف الكل عن الكلام، واستوت الصفوف فى صمت رهيب كانما على رؤوسها الطير، وبدأ التعلمجى فى القاء محضارته التى يستهلها عادة بالهزء والسخرية من المجندين، ويطرح اسئلة يقوم بالرد عليها بنفسه، إذ لا يستطيع احد ان يفتح فمه بكلمة، فالكل هنا تحت رحمته يميلون حيث يميل، ويستمعون لحديثه الغير مجد بصمت هو اشبه بصمت اهل القبور.
انخرط المجندون فى اداء الحركات العسكرية باوامر من معلمهم، فبدأت الصفوف حركتها فى خط مستقيم الى اليمين تارة، ثم دارت واتجهت الى اليسار تارة اخرى، ثم اقبلت الى الامام فى خطوات رشيقة متناسقة، ثم دارت الى الخلف فى حركة اكثر رشاقة.. وتلى ذلك زحف على الارض ثم نهضت الصفوف من جديد واسنؤنفت ( البيادة ) فكنت لا تسمع الا صوت ضربات ( البوت ) الذى يجعل الارض تئن تحت وطأة خبطاته القوية .
استمر الحال على هذا المنوال الى ان مالت الشمس الى المغيب، قال اشرف لصلاح بعد ان أُذن لهم بالانصراف: الم تلاحظ زيادة جرعة الرياضة عما كانت عليه فى السابق!!
– اسبوعان مرا على وجودنا هنا.. بديهى ان تزداد كمية الجرعات، فالجسم تعود على مثل هذه التمارين، واللياقة اصبحت فى اعلى معدل لها..
– بالاضافة الى ما تفضلت به، اظن ان لجوءهم لتكثيف التمارين هو محاولة منهم لتقليص فترة التدريب.. فالمعسكر فى ازدياد مضطرد..
– ذكرتنى كلمة مضطرد هذى باحد الاصدقاء كنا قد تزاملنا فى ورشة المعلم، كان ينتقى الفاظه بعناية شديدة، فبالرغم من ان لــ ( الميكانيكيين ) لغتهم ومصطلحاتهم التى يتخاطبون بها فى ما بينهم، الا ان صديقى هذا، كان شديد الحرص على ان لا يتكلم الا بلغة ( المثقفاتية ) الامر الذى كان يعرضه لسخريتنا.. المهم اوافقك على ما ذهبت اليه، فالمعسكر كل يوم يستقبل ( جيش ) جرار من الوافدين الجدد.
قال اشرف وهو يهم بنزع قميصه المبتل بفعل العرق بعد ان وصلا الى خيمتهم: يبدو ان ايامنا لن تطول بالمعسكر، فالدفعة التى تم تخريجها بالامس، اعتقد لم تسبقنا الى هنا الا بايام معدودة..
– لم يتبق لنا الكثير.. ربما غدا او بعد غد سنتدرب على فك وربط السلاح، وبعدها يكون التدريب على الرماية .. سيكون ذلك فى الاسبوع القادم او الذى يليه..
رمى اشرف قميصه على الارض وارتدى جلبابه ثم خرج مستأذنا صديقه الذى لم يعد الى طبيعته منذ ان صحى على ذلك الحلم الذى يبدو انه قلب مزاجه راسا على عقب.
لم يكن فى وسع اشرف الصبر على واقعه الجديد الذى فرضته عليه الظروف، كما لم يكن فى وسعه ايضا التاقلم على هذا السجن المحبوس داخل اسواره الحصينة، فلقد شق على نفسه ان يعيش هنا مكبلا، من التمرين الى مخدعه ومن مخدعه الى التمرين، فالوجوه هى نفسها يشاهدها عشرات المرات يوميا.. والايام كلها شبيهة ببعض، إذ لا جديد يذكر.. علاوة على قسوة الحياة العسكرية وجفافها، وغلظة التعلمجية وتعاملهم الفظ، فلإن صبر على كل ذلك، فلانه لا يجيد الهروب مما يجابهه من مصائب.. لقد كان بامكانه ان يهرب كما فعل الكثيرون، ولكنه لم يعتد ان يجبن فى مثل هكذا مواقف، فكم من واقع امر من هذا تخطاه بصبر وشجاعة وجلد.
خرج يسير على غير هدى.. نظر الى الافق البعيد من جهة الشرق، وهناك فى نقطة التقاء الارض بالسماء تراصت سحب تمازجت فيها الوان الشفق مع لون السحب الداكن، تذكر انهم فى اوائل اغسطس، موسم قص الحشائش والطفيليات ونزعها عن محصولى الذرة والفول السودانى.. انها بداية اغسطس إذ تتراكم السحب، وتطل شتلات القطن برؤوسها الخضراء، وترسل السماء الى الارض الظمأى غيثها مدرارا.. انه موسم الانبات والزرع الذى تنشق عنه الارض خيرا وخضرة ونضارة.. طفق يسير على غير هدى، غارق فى تاملات اعادت اليه ذكريات كم هى عزيزة على نفسه.
[email][email protected][/email]