مقالات وآراء

عبد الله بولا.. صرخة في وجه العنصرية الثقافية نهاية عصر المركزية النيلية وبدء انعتاق الهوية السودان

 

أنا تلميذ نجيب لعبد الله بولا، وأكتبُ اليوم ليس كمُحايد، بل كتلميذٍ مُنحازٍ لفكر هذا المفكر الثائر. عبد الله بولا كان صوتًا جريئًا وقفّ ضد التقيد بالأنماط الثقافية المعتمدة التي فرضتها النخبة السودانية، وسيطر على الأذهان منذ أكثر من نصف قرن من الزمن. في هذا المقال، نعيد قراءة فكر بولا، ونكشف القناع عن وجه السودان المقنع بالعنصرية الكامنة والهُويات المتصارعة، مع التركيز على كيفية بناء هوية سودانية حرة ومتماسكة تتجاوز الانقسام بين “العرب” و”الأفارقة”.

السودان: دولة ما بعد الاستقلال وفخ الهوية الضحلة
عند نيل السودان لاستقلاله عام 1956، ورث الشعب دولةً هشةً بُنيت على وهم “الهوية العربية المطلقة”، التي اختزلت غنى وتنوع الكيان السوداني المتعدد الأوجه. لقد أصبحت “العروبة” أداة هيمنة من قبل الوسط النيلي (الخرطوم والمناطق المحيطة)، لتبرير تفوقه على “الآخر” الأفريقي المتواجد في الغرب (دارفور) والشرق (البجة) والجنوب (قبل الانفصال).

لماذا فشلت النخبة في بناء هوية جامعة؟

لأنها استبدلت الاستعمار الخارجي باستعمار داخلي؛ قائم على تسلسل هرمي للون واللسان.

لأنها حولت الثقافة إلى سلعة نخبوية تُكرس الانفصال بين “المُتحضّر” (المُعرّف بالعربي) و”الهمجي” (المُعرّف بالأفريقي).

إن هذا الفشل في بناء هوية شاملة أسفر عن دولة ما بعد الاستقلال أصبحت تعاني من ضعف جذورها وتراثها المتعدد، مما دفع الهامش إلى الثورة على تلك الهوية المفروضة.

عبد الله بولا: النبي المُهمَّش الذي كسر المرآة
لم يكن عبد الله بولا مجرد فنان تشكيلي أو مفكرٍ بعرض الفكر النقدي؛ بل كان ثائرًا يمسّ صميم الوعي السوداني. من منطقة البجة المُهمَّشة، خرج بولا ليُعلن بصراحة:

العبودية الكامنة: ليس القيد المستحضر من الماضي، بل بنية ثقافية تُهمِّش الأجساد السوداء وتخلّفها عن الخطاب السائد.

مركزية اللون: سيطرة البشرة الفاتحة في الإعلام والأدب كآلية لتعزيز تفوق “العروبة” ورفض الهوية الأفريقية.

الثورة الثقافية: التي لا يمكنها أن تكتمل في غياب تفكيك الهيمنة الرمزية للنخبة النيلية، إذ يصبح تحرير الفكر والثقافة ركيزة أساسية في التجديد الوطني.

في لوحاته، امتزجت الرموز الأفريقية الأصيلة مع الخطوط العربية الراقية، وكأنها جسر ثقافي يتحدى الفواصل التي رسمتها سياسات النفور والتمييز. كان الفن عند بولا وسيلةً لتجاوز الكلمات، فهو لغة تعكس عمق هوية لا تقبل القيد بأي قالب محدد.

لماذا أُقصي بولا؟
إن استبعاد عبد الله بولا لم يكن قرارًا شخصيًا بحتًا؛ بل كان تجسيدًا لجريمة ثقافية تُعبّر عن أزمة ضاعفة تهدد مصداقية الهوية السودانية.

أولًا: كشفه العُري العنصري
رفض بولا الاعتراف بأن العنصرية ليست محصورة في المناطق النائية، بل هي جزء من الواقع داخل قلب الوسط النيلي. إذ اعتُبرت مناطق مثل دارفور والبجة “أقليات” يجب أن تُستوعب كموضوعات إدماج رمزي دون منحها شراكة فعلية في صناعة الهوية الوطنية.

ثانيًا: خروجه عن لعبة الهوية المعلبة
رفض بولا أن يُفرض عليه أو أن يُفرز ضمن إطار “العربي” أو “الأفريقي” بشكل انفصالي. فكان يدعو إلى هوية سودانية مركبة، تُقدر التنوع الثقافي دون إنكار لجزء منها. ويُعد ذلك تحديًا مباشرًا للنظام الذي يسعى لاستمرارية السياسات التي تُكرس الهوية المزدوجة وتُبعد الأصوات التي لا تتماشى مع النسق الرسمي.

إعادة قراءة بولا: تحرير الهوية السودانية من سجن الثنائيات
إن قراءة فكر عبد الله بولا لا تقتصر على استرجاع ماضٍ حافل بالألم والنضال، بل هي دعوة لبناء مشروعٍ ثقافي جديد يستلهم من رؤيته الثورية.

أ. الاعتراف بالتعدد دون خوف
على المجتمع أن يتوقف عن اختزال السودان إلى ثنائية “عربي – أفريقي”. فالسوداني الحقيقي يُعبر عن نفسه بمزيجٍ معقد من الكيانين؛ عرب بأفريقيتهم وأفارقة بعروبتهم. يجب إدماج الرموز الأفريقية – كالطبول والنقوش – مع التراث العربي كالخط والشعر في جميع الميادين التعليمية والفنية.

ب. تفكيك مركزية الخرطوم وإعادة كتابة التاريخ
يجب إعادة النظر في التاريخ من خلال منظور الأقاليم، فلا يجوز اعتبار تاريخ البجة أو الفور أو الشلك حكايات هامشية، بل هي قصص القلب النابض للسودان. كما يجب دعم اللهجات المحلية وتحويلها إلى لغات وطنية تُثري الحوار الثقافي.

ج. الفن كجبهة تحرير
كما فعل عبد الله بولا في لوحاته، يجب أن يكون الفن أداة تحريرية لا تُكسر فيها القيود، وأن يُفتح المجال للإبداع عبر معارض ومشروعات تُدمج بين مختلف أشكال التعبير الفني. كذلك، إن إحياء كتاباته ومقالاته في المناهج الدراسية يساهم في غرس فكرة أن الهوية الوطنية تُبنى بالحوار وليس بالصمت أو القمع.

عبد الله بولا لم يمت؛ إذ ما يزال يصرخ في ضميرنا الجماعي كنبأٍ عابرٍ يحمل بين طياته رسالة تحريرية صريحة. الثورة التي بدأت في ديسمبر 2018، برفضها للاستعباد الفكري والثقافي، أكدت أن السودان الهامشي لا يقبل بعد الآن أن يكون تابعًا للصور النمطية التي فرضتها النخبة النيلية. إننا في حاجة إلى إعادة تأمل جريئة في الهوية الوطنية عبر الاعتراف بالتعدد والاحتضان الكامل للتنوع، فالسودان الجديد لن يُبنى إلا بجسرٍ من الاعتراف المتبادل يجمع بين عروبيته وأفريقانيته
[*هوية سودانية مركبة أم موتٌ بطيء.. ذلك هو الاختيار.]

‫2 تعليقات

  1. التحيات العاطرات يا استاذ ابو الزهراء …
    تصحيح بسيط لقولك في المقال الممتاز “من منطقة البجة المُهمَّشة، خرج بولا ”
    عبد الله أحمد البشير بولا من ابناء بربر ولد وترعرع فيها وقد ذكر ان اللقب يعود افي الأصل الي ” حسن بولا” لاعب كرة اشتهر في مدينة بربر و يقال أن اسلوب بولا ومهاراته الفائقة في لعب الكرة كان اشبه بأسلوب حسن بولا …
    يقول الاستاذ النور حمد عن عبد الله بولا:
    “تحول بولا في سنوات قليلة من أستاذ إلى صديق عمر، ورفيق درب، رغم فارق السن بيننا. معه زرنا أهله في مدينة بربر …
    كما زار معنا بولا ” حلة حمد الترابي”، وجلس مع أبي في الحوش، ساعات طويلة.
    وظل أبي يحدثه، في غير ملل، عن قصص أجداده الصالحين، إذ وجد أبي فيه، مستمعا نادرا. ولم يعهد أبي مستمعين يهتمون بجنس قصصه. وقد كان أبي حاكيا من الطراز الأول. وهو ممن تستحلب عيون السامع الغارق في الإستماع، مخيلته، وذاكرته، استحلابا. أصبح بولا، صديقا لأبي، ولكثير من أهلنا الذين ظلوا يسألون عنه، لسنوات وسنوات، ” ..

  2. التحايا العاطرات لك، أخي الكريم، وأشكرك جزيل الشكر على هذا التصحيح المهم والدقيق.

    ما تفضلتَ به عن أصل الأستاذ عبد الله بولا من مدينة بربر، وعن قصة لقبه المستلهمة من لاعب الكرة الشهير “حسن بولا”، يضيء جانبًا إنسانيًا جميلاً من سيرة هذا المفكر الفذ، ويكشف عن عمق انتمائه الشعبي والوجداني، بعيدًا عن أي تصنيفات جغرافية ضيقة.

    أقدّر لك جدًا هذا الإثراء، وسأقوم بتعديل المعلومة في المقال، لأن الدقة في نسب الانتماء، خاصة في بلد كالسودان متعدد الثقافات والهويات، أمر له دلالاته، ويعكس احترامنا لأشخاص تركوا أثراً كعبد الله بولا.

    كما أن استشهادك بما أورده الأستاذ النور حمد يعمّق الصورة ويزيدها دفئًا وصدقًا… فلهمَا معًا – النور وبولا – امتداد في الذاكرة السودانية لا يُنسى.
    أكرر شكري وتقديري لك، ودمت ذخراً للحوار المعرفي الرصين.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..