حكاوي كرم الله كركساوي

محمد علي بشير
تكشف لنا عن أنفسنا في عيون الآخرين
(مسافر يبحث عن ماء أو رحلة خلف السراب)
مجموعة حكاوي وانطباعات
ذلكم هو عنوان كتاب شائق وجميل سطره قلم الدبلوماسي كرم الله أحمد كركساوي في رحلة عمله بوزارة الخارجية التي استمرت لعقدين من الزمان وتطواف رائع على بحار ومحيطات وجزر وقارات العالم ابتداءً من الدول المتقدمة جداً حتى دول الشرق بأسطوريتها وإيمانها بالغيبيات هي في مجملها ست وخمسون حكاية كتبها قلم شاعر ورسام وقاص نهل من معين صاف في الأدب مع تربية أم درمانية فيها ما فيها من الحزم وعدم الخروج عن العرف.. هي حكايات مسافر صدرها بترجمة لأغنية شهيرة بالهند كتبها (شايليندرا) وأوردها الكاتب كذلك باللغة الإنجليزية. حكايات اتخذت الموضوعية والحقيقة مركباً شملت أفكاراً ومقارنات وذكريات خاصة وأنه بحكم عمله تحكمه في الغالب قيود العمل وبروتوكولات يتعذر الخروج عنها مع ضرورة التحلي بمسلكية خاصة.. حكايات تكشف لنا أنفسنا في عيون الآخرين – تلك التسمية الإنسانية الناعمة ? ومن ثم في مرآة أنفسنا حتى نعرف لماذا نحن كذلك؟! حكايات مفيدة وملية خاصة تلك التي حدثت للدبلوماسي الأفريقي الذي كاد سائقه أن يصدم بسيارة السفارة الفارهة رجلاً على دراجة هوائية يحمل مظلة تقيه زخات المطر، وحينما وصل إلى القاعة وجد أن ذلك الرجل هو ممثل الدولة الأوروبية التي جاء الأفريقي ليترجاهم ليلغوا أو يؤخروا ديونهم عليهم!! وقصة احترام الباكستانيين لأخيه الملتحي واحتفائهم به وكانوا يستغربون علم السودانيين باللغة العربية ? لغة أهل الجنة ? بل ويستكثرونها عليهم وكذلك تفقه السودانيون في الدين واهتمامهم بالعبادات بصورة اكثر انتظاماً.
كذلك حساسية اليابانيين الشديدة تجاه ارتكاب الخطأ. وعدم تسامح الأوروبيين في استعمال الكلمات بغير دقة ككلمة يا أخي، وقصة انفجار مخزن الذخيرة بمدينة روالبندي، وهي المدينة التوأم لإسلام أباد الواقعتين في إقليم البنجاب- أي الأنهار الخمسة ? وعاصمته لاهور وهو من أعرق الأمصار الإسلامية، ونجاة ابنه منها. وكذلك استعمالنا خطأ لكلمة (حلبي) لكل شخص أبيض اللون في السودان ? استرخاصاً ? مع أن حلب مدينة عظيمة وتاريخية والانتساب لها يعد فخراً وأيما فخر.
وقصص الهند ومنجموها وأجواؤها الأسطورية وتناقضاتها البينة وتناسخ الأرواح ونهر جامونا الذي يقع على ضفافه ضريح تاج محل وأبدت الحكومة الهندية اهتماماً به باعتباره من عجائب الدنيا السبع، أن أفئدة العشاق تهفو إليه بين الحين والآخر، وقد بناه شاهجيهان على قبر حبيبته وأم عياله الأربعة عشر، ممتاز محل. وقصة عشاء القطة الأمريكية وعشاء الزاحفة الخضراء اليابانية الحية وغداء فيينا الساخن وقصة الكلب الوفي هاشكو الذي بني له تمثال بمحطة قطار شبويا بطوكيو. والقصة تعود إلى أن الكلب هاشكو تعود صاحبه أن يصحبه حتى المحطة ثم يركب القطار ويتركه بالمحطة وحينما يعود يجده قد عاد ليصطحب سيده إلى الدار ومرة لم يعد سيد الكلب، فقد توفاه الله، حيث ذهب، ولكن الكلب ظل يرتاد المحل حتى نفق، فخلدته الحكومة بذلك التمثال. وكذلك درس الروسية لصديقه الحلفاوي، وهو ينزل لتناول وجبة الإفطار في مطعم الطلاب بموسكو بالجلابية السودانية ووصفته بعدم اللياقة والذوق بمقابلة الناس ببيجامة نوم فرد عليها بأنها زينا القومي فلم تصدقه واعتقدت أنه يهزأ بعقلها وواصفة الجلابية بأنها ما هي إلا بيجامة نوم فقط، ولا يعقل مقابلة الناس بها. وكذلك رحلة القطار بألمانيا ومحرقة الموتى في إشتاوفون ومدينة براغ أوالحاجة براغ كما يسميها السودانيون لرخص أسعار بضائعها ووفرتها، ورحلة هاواي (حلم الطفولة) ومهاتفته لوالدته بتحقيق الحلم، فما كان منها إلا أن قالت له: الفأل تحت اللسان وصدقت الحاجة الكريمة فيما قالت، وكذلك زيارته لجامعة تفتس الشهيرة بأمريكا ومقابلته لبروفيسور ليلى فواز اللبنانية التي قيل له إنها قالت إنها ستموت إن لم تقابل هذا السوداني الزائر وحكت له عن ذكريات والدها الذي عاش في خمسينيات أو أربعينيات القرن المنصرم في السودان وكان كثيراً ما يحدثها عن طيبة وكرم السودانيين مما دفعها لأن تبحث عن وجه سوداني وتتحدث إليه، وفاءً لقيم جميلة سربتها منها إيدي المحن. هذا السفر الجميل للسفر الأجمل والترحال الطويل نثره عليه الأديب كرم الله في (ونسة) ودودة وهدوء بليغ وكرملغوي، وياليتنا نفعل مثله بأن ندون ونطبع كتبنا وذكرياتنا وأسفارنا حتى تعم الفائدة ونحارب الشفاهية هذا الداء الذي طالما عانت منه حياتنا وخاصة الأدبية والسياسية والرياضية والأكاديمية والثقافية على الوجه الأعم، وأدعوكم وكي ثقة بالمتعة التي ستنالونها لقراءة هذا الكتاب النادر
اليوم التالي