مقالات وآراء

ألفريد تعبان .. عامٌ على رحيل رائد الصَّحافة الوطنية (الجزء الأخير)

حكى تعبان للصحفي مدينق نقور في لقائه التلفزيوني، أن أفراد جهاز الأمن والمخابرات الوطني،أخرجوه وأوقفوه مرة خارج المبنى الذي كان محتجزاً فيه، وأُجبروه على الوقوفووجه نحو الشَّمْس، وأمروهأن يُغني أُغنية. قال لهم أنه لا يعرف أي أغنية. قالوا له: “لدينا أُغنيةً لك وعليك بترديدها” وهي (أنا كذاب .. أنا كذاب .. أنا كذاب). وأجبروه على ترديدهاتحت التهديد بالضرب المُبّرَح الَّذِي يمكن أن يسبب له الموت لاحقاً، فاستخدم ذكائه في في تلك الحظة ليخفف حدة الضربات على نفسه،وقَبِلَبترديد الأُغنية: (أنا كذاب .. أنا كذاب .. أنا كذاب) وهو واقفٌ في فناء سجن الأمن، ينظر إلى الشَّمْس المتوهجة مِن الصَّبَاح حتى العصر. وقد أثر ذلك على بصره وقدرته على الرؤية بشكل جيد حتى يوم وفاته.
تعرفتُ على ألفريد تعبان لوقوني مِن خلال كتاباته في عموده Letus Speak Outوأعجبتُ بما كان يكتبه، إذ كان كله ترجمة لقضيتنا، فأشعل في نفسي وعياً وأثر عليَّ تأثيراً ايجابياً بأفكاره وقلمه. كنتُ تِلْمِيذاً في مدرسته الفكرية والثورية على صفحات الصحيفة. وبعد مرور سبع سنوات وأنا اقرأ(الخرطوم مونيتر) 2000- 2007م، تحولتُ مِن قارئ إلى كاتب في نفس الصحيفة (الخرطوم مونيتر) في أبريل 2007م. ولأنني كنتُ أتردد كثيراً على مباني الصحيفة لتسليم مقالاتي، وأتعرف على الصحفيين والكُتَّاب، عُرِضَ عليَّ فرصة لحضور دورة تدريبية في الصَّحَافة، فقبلتُ العرض. وحضرتُ الدورة الَّتِي نظمته الصحيفة بالتعاون مع السفارة البريطانية بالخرطوم في النادي القبطي، وكنتُ قد حضرتُ دورة أُخرى مع صحفيينوصحفيات من مختلف الصحف في مقر الصحيفة بأركويت.

كان ألفريد يقرأ مقالاتي ويعجب بها، وأنا لا أعلم. ومرة قمتُ بزيارة إلى مكتبه للتعرف عليه. وبعد أن عرفتُ نفسي باسمي، انتابه شعورٌ مختلط بين الفرح والاندهاش. وقال لي مادحاً: “أنا غير مصدق بأنك أنت دينقديت أيوك الذي أطالع مقالاته مِن وقتٍ إلى آخر. كنتُ أظنك شخصاً كبيراً في السن”. وأعرب لي عن ارتياحه لرؤيته شاب مثلي في العشرينات يكتب في القضايا الوطنية. وبَشَّرَنِي بأن المستقبل الذي ينتظرني مستقبلٌ باهرٌ، كعادة الكبار في رفع همة وعزم الصغار. ثم شجعني على الاستمرار في الكِتَابة. وقال: “أنتم مَن ستواصلون الصَّحَافة إذا حدث لنا شيء”.

أعلن ألفريد تعبان انضامه رسمياً للحركة الشعبية في 2007م، وكتب إعلان انضمامه في عموده تحت عنوان (ألفريد تعبان ينضم للحركة الشعبية) Alfred Taban joins SPLMشارحاً لِقُرَّاء صحيفته قناعاته الَّتِي دفعته للانضمام إلى الحركة الشعبية. كان مؤمناً برؤية (السُّودَان الجديد) ومناصراً للحركة الشَّعْبِيَّة لِتَحْرِير السُّودَان، وكان في نفس الوقت من أشد الداعين إلى قيام دولة مستقلة في السُّودَان الجنوبي، وخصوصاً بعد وفاة قرنق. وخلال الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام الشامل، كثف تعبان جهوده في تثقيف وتوعية السُّودَانيين الجَنُوبيين بضرورة الانفصال وتأسيس دولة مستقلة، بعيداً عن دولة الجلابة العنصرية.

بجرأته وكلمته الرصينة أمام الشَّعْب السُّودَانِي والعالم المتحضر، استطاع ألفريد تعبان خلق التأثير وألهب روح الثورة في النَّاسِ داخلياَ وخارجياً، وإذ اكسبته مواقفه البطولية احترام الجميع (داخلياً وخارجياً)، حصل تعبان على جائزتان: جائزة (أبوت)للإنجاز، مِن قِبَل مجلس العموم البريطاني في العام 2005م، وجائزة الصندوق الوطني للديموقراطية مِن الرئيس الأمريكي جورج بوش في العام 2006م مع ستة شخصيات مؤثرين آخرين من دولٍ أفريقية في واشطن، وذلك لدوره في ترقية الديموقراطية ودفاعه عن التحول الديموقراطي في السُّودان، كما نص عليه اتفاق السلام الشامل الموقع في يناير 2005م بنيروبي.

في نهاية العام 2009م وبداية 2010م، أعلن ألفريد تعبان عن ترشيح نفسه لمنصب حاكم ولاية الاستوائية الوسطى في الانتخابات التي كانت مزمعة أن تُجْرَى في شهر أبريل2010م عن الحركة الشعبية، وسعى للحصول على مباركة الحركة، لكن المكتب السياسي للحركة رشح كلمنت واني كونقا بدلاً عنه، وأصبحت الفرصة مواتية أمامه ليُنافِس كونقا مرشحاً مستقلاً؛ لكنه رفض ذلك، لأنه كان يُريد مباركة الحزب له ويحظى بترشيح مِن داخل المكتب السياسي للحزب. مِن المؤكد أنه تعرض لخيبة أمل فيما يتعلق بعدم قبول ترشيحه لنفسه ليكون منافساً للحزب في تلك الانتخابات، لأنه كان عضواً عقد آمالاً عريضة على الحزب في التغيير السِّيَاسِي، وأراد أن يكون جزءً من صانعي التغيير داخل الحركة الشعبية التي دافع عنها بشدة.

واصل تعبان العمل الصحفي بعد الاستقلال، وأعاد تسمية صحيفته بـ(جوبا مونيتر) وظل رئيساً لمجلس إدارتها وهيئة تحريرها؛ لكن الحركة الشَّعْبِية كسُّلْطة حاكمة في البلاد،خيبت آماله مثلما خيبت آمال الشَّعْب، حين تعرض كثيرين من الصحفيين وكُتَّاب الرأي الشجعان للإعتقالات والضرب والسجون وإلقاء بعضهم على المقابر بين الحياة والموت، بعد التعذيب والتنكيل، مثل حالةذلك الشخص الذي كان مسافراً بين أريحا وأورشليم قديماً، فوقع في كمين اللصوص، فَضُرِبَ وتُرِكَ بين الحياة والموت. وعلاوة على ذلك، اختفاء آخرون في ظروف غامضة.

دافع ألفريد تعبان بشدة عن حُرِّيَّة التعبير في جمهوريتنا الجديدة،مثلما كان يفعل في جمهوريتنا القديمة، من موقعه كصحفي بارز ورائد ورئيس جمعية تطوير الإعلامAMDISS. تعرض لخيبة أمل حين راى نفس السِّيَاسَات القديمة التي حاربها بفكره وقلمه في الشمال تتكرر في الدَّوْلَة الجديدة، الدَّوْلَة التي أعتقد أنهاستكون مختلفة وأفضل من سابقتها، في ظل خطاب الحركة الشعبية الخاص بالسُّودَان الجديد الذي اختفى بغياب صاحبه قرنق في تلك الطائرة المشؤومة.

بعد معركة القصر الرئاسي في جوبا في يوليو عام2016م، بين فصيلي الحركة الشَّعْبِيَّة (الحركة الشَّعْبِيَّة الأُم والحركة الشَّعْبِيَّة في المعارضة) بعد توقيع اتفاقية حل النزاع في البلاد، حرر ألفريد تعبان عموداً صحفياً بصحيفة (جوبا مونيتر) حمل فيه الرئيس سلفا كير ميارديت والنائب الأول ريك مشار، مسؤولية ما أسماه “فشلهما في الحفاظ على الأمن ونقل الحرب من الأدغال إلى العاصمة”. ودعاهم للتنحي عن السُّلطة فوراً، فتعرض للإعتقال في اليوم التالي مِن قبل السُّلطات الأمنية، واحتُجِزَ لمدة (13) يوماً في البيت الأزرق.

وفي العام 2017م، شغل تعبان مقعداً برلمانياً عن دائرة منطقته كاجوكيجي، وهو مقعدٌ مِن مقاعد الحركة الشَّعْبِيَّة في المعارضة (جناح تعبان دينق قاي)،وظل عضواً في البرلمان الانتقالي وعضواً في اللجنة القومية المناطة بتوجيهة الإجراءات الخاصة بالحوار الوطني،حتى وافته المنية في 27 أبريل العام الماضي.

وإذ نكتب عنه اليوم بمرور عام على ذكراه، نكتب عن رَّجُلٍ توهجت شَّمْسُ الحقيقة في نفسه، فقرر دون جبن أن يقولها، وهو في عرين العَرَنْدس. نكتب عن رَّجُلٍ حمل قضية شعبه في روحه، ونذر لها العمر كله متحدثاً عنها في كل المنابر، وظل صوتاً شجاعاً أشعل الخرطوم بسلاح الفكر والقلم، قبل أن يدخلها القائد الراحل خليل إبراهيم مع جنوده.

إنّ قِصّة ألفريد تعبان، أيها السادة والسيدات، ستبقَ قِصّةَ صحفياً ثورياً ثار بفكره وقلمه وعمل على تحرير الشَّعْب السُّودَانِي، وخصوصاً الجنوب ودارفور وجبال النُّوبة، مِن الظُّلْمِ والتهميش والقمع وجميع الانتهاكات والفظائع، مستخدماً أفكاره وقلمه بنظرة سديدة مثلت آرائه ومواقفه، ودفع ثمناً باهظاً لذلك أمام نظام حاربه في عُقْرِ داره. إن عمله من الداخل كان أخطر بكثير مِن الذين تمردوا وخاضوا الحروب من الأدغال ضد نظامٍ قاده أشخاص مِن ذوي البأس ومصاصي الدماء، وأشرس نظامفي التاريخ السِّيَاسِي السُّودَانِي الحديث.

رحل ألفريد تعبان وانقضى على رحيله عام صامت، لا يقول عنه شيء، لكنه ظل باقِياً في ذاكرتنا، وسيظل اسمه خالداً في صفحات تاريخنا المجيد. ليرحمه الله بقدر ما قدم لعباده في الأرض من فكرٍ وجهدٍ يعتبران شكلاً مِن أشكالِ النضال وإسهاماً في مسيرة الكفاح.

دينقديت أيوك
الأربعاء 29 أبريل 2020م

تعليق واحد

  1. إبان فترة اعتقاله في سجن كوبر زرت اخي وصديقي أنور حسن فى المعتقل وطلب منى أن أعيد الزيارة فى المرة القادمة وان اطلب الفريد ولم تكن لي معه سابق معرفة.. بالفعل قمت بزيارته في المرة القادمة.. احتفى بى كمن يعرفني منذ أمد بعيد كان هاشا باشا وتمنيت أن النقيه مرة أخرى لكن للأسف الاسيف طالعت خبر وفاته من الصحف… عزيت صديقه أنور ود الحوش كان مثالا نادرا من الصحفيين الملهمين الشجعان الذين لا تمل مسامرتهم رحمه الله بواسع رحمته

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..