حينما تغيب الدولة

أيام قضيناها في رحاب الجزيرة وداخل أعماق ريفها الغربي وقفنا على حقيقة البؤس والشقاء الذي يعانيه إنسان المنطقة هناك حيث لا حكومة هناك تفي بواجباتها ولا مسؤول تأخذه الهمة أو تحركه مواجع المحزونين والمكابدين في المزارع والحقول التي تحولت إلى صحارٍ عطشى، فالماء هناك عزيز صعب المنال فالزراعة تشكو انهيارات نظم الري كما يبحث الإنسان عن ماء شربه من تحت الحفائر ومن فوق ظهور الحمير ولكن الماء تأبى إلا أن تستعصى وتتجنى على إنسان فقير وبسيط لا حول له ولا قوة.
ورغم أني كنت أنشد الراحة والاستجمام في هذه المدة حتى يستريح القلم قليلاً في حالة أشبه بالهدنة ولكن كانت المدة ذاتها فرصة لتنشيط فضيلة الاستماع للآخرين بأريحية وآذان مفتوحة، وهم يشكون ويلاتهم وآلامهم وبؤسهم تحدثوا عن كل شيء بلا أدنى تحفظات فقد أجبرتهم ظروفهم على أن يتجاوزوا حتى الخطوط الحمراء.. والرمادية، باحوا بكل ما يقلق عليهم معايشهم ويهدر مكاسبهم وحقوقهم.. حقائق قاسية يتحدث عنها أهل غرب الجزيرة فمشروع الجزيرة بات كما الأطلال البالية ذلك لأن الرقعة الزراعية تقاصرت وتآكلت من أطرافها بسبب العطش وارتفاع تكاليف عمليات التحضير في كل موسم جديد.. قرى ومناطق عديدة في غرب الجزيرة أصبحت كما الأشباح، مواطنوها ينثرون بذور الأمل في الأرض ولكن لا يحصدون يجوعون ولا يأكلون يمرضون ولا يعالجون يبحثون عن دولة ولكنهم لا يجدونها يطرقون أبواب الحكام كافة ولكن لا أحد يستجيب.
وإن كانت هناك إشراقات أو ملامح حياة فهي من خيرات أبنائهم الذين هربوا من هذا البؤس وعاشوا في المهاجر يتحملون أعلى درجات المسؤولية لإعاشة أسرهم وعوائلهم بالداخل ويتحملون كذلك سداد فواتير قاسية في تقديم الخدمات الضرورية من شاكلة الكهرباء والصحة والمياه ولولا هؤلاء المغتربين لانتفت كل معايير الحياة وقيمها هناك.
يبدو أن أسوأ ما جنته الدولة على إنسان الريف عبر هياكل الحكم والإدارة أنها وضعت المسؤولية كاملة بين يدي قيادات لا تحمل من الخبرة والإرادة والفكرة ما يؤهلها لتلبية حاجيات المواطنين هناك، والمحزن حقًا أن حتى اللجان الشعبية أصبحت في نظر المواطنين هي المجرم الأول والمنتهك الأكبر للحقوق العامة ولكن لا رقيب ولا رادع ولا قانون يطبَّق.
ومن المفارقات حتى المشروعات الخدمية الكبرى والضرورية لإنسان المنطقة تراجعت عنها الحكومات الولائية والمحلية وألقت بكل ثقلها على هذا المواطن مهدود الحيل.
كنت وطيلة هذه المدة التي قضيتها بين عدد من قرى غرب الجزيرة أبحث عن حراك حقيقي للسلطات المحلية بالمناقل وعن دور ملموس تمارسه تجاه المواطن ولكن لم أجد شيئًا.. وحتى مستشفى المناقل الذي بات المشفى الأشهر في السودان بسبب الضجة ـ الهزة العنيفة التي أحدثها تحقيق الفئران الشهير إلا أن هذا المستشفى ما زال في بؤسه وخرابه وترديه فقد دخلته قبل يومين لمعاودة أحد المرضى فلم أجد تطورًا موجبًا في كل ما جاء في ذلك التحقيق سوى القليل وحتى المليارات التي كانت قد وعدت بها حكومة ولاية الجزيرة مستشفى المناقل هي مجرد خدعة وكذبة كبيرة.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. الاخوة القراء الكرام
    ارجو ان انتهز هذة السانحة للتعليق علي بعض ما يجري في هذا البلد العزيز.لقد لازمت الصمت ردها من الزمان عن قضايا السودان عسي ان يصلح الله حال البلاد و العباد .ولكن المتأمل لما يدور ويروج له من اصحاب الشأن و المصلحة يدرك تماما ان العالم مقبل علي تحمل تبعات فشل دولة اخري في محيطة الافريقي. الامر الذي يشكل تهديدا كبيرأ علي السلم و الامن الدوليين نظرأ لطبيعة النظام في السودان وعلاقتة مع الجماعات المتشددة حول العالم .وبطبعية الحال الحديث عن تطورات الاوضاع التي يشهده السودان لا يمكن قطعا يفضي الي مصلحة و طنية للتعقيدات السياسية المتداخلة و التي يمكن تصنيفها كما يلي:
    1. طبيعة النظام الذي حول الدولة الي مؤساسات الحزب و مستعد للقتال من اجله ( او ترق كل الدماء).
    2. الثقافة السياسية التي انشأها هذا النظام و تربي عليها عقدين من الاجيال بما في ذلك الفهم الخاطئ لمبادئ الحكم الثيوقراطي.
    3. جملة من جماعات المصالح و الفساد التي اوجدها مماراسات النظام و لا يقوي علي السيطرة و القرار عليه و هي تمسك ببعض هذه الملفات الاستراتيجية.
    4. انعدام الرؤية الاستراتيجية لقضايا الوطن و الحكم الرشيد وخصصوصا فيما يتعلق بقضايا الامن القومي (مسألة الاستقرار السياسي و قضية المياه ) و عدم استيعاب النظام للتحولات الاقليمية و الدولية و اتجاهات السياسة الدولية
    5. التنشئه السياسية الخاطئة لاجيال من الشباب علي اسس جهوية و عنصرية و فوق ذلك علي شعارات حزبية وولاءات شخصية ترمي الي سمو الحزب و الافراد علي الدولة علي غرار النظام الايراني.
    6. انعدام المسؤلية الوطنية من كافة الشرائح المجتمعية و خصوصا المثقفين الذين اصبح لا شغل لهم غير اللهف وراء العيش من خلال التدليس و المداهنة للنظام.
    7. الصراع حول ازمة الهوية و النزاعات مع الاقاليم و المجموعات العريقية الغير عربية لهفا وراء اهداف غير مفهومة.
    8. الاستئثار بالسلطة و الثروة و عدم قبول النظام بالتحول الديوقراطي.
    9. تفكك المؤسسة العسكرية و غياب القومية الوطنية و العقيدة الدفاعية التي توجهها و تنامي المليشيات الحزبية التابعة للنظام علي غراار الوضع في لبنان مع حزب الله.فضلا عن استقطاب القادة و تجنيد العناصر الحزبية التابعة للمؤتمر الوطني.
    10. ادانة النظام امام المؤسسات الدولية و الضغوطات التي تشكلها علي مستقبل النظام و مصير قادته.
    استطيع ان اجزم ان جميع النقاط اعلاه مع قضايا اخري ربما لم اذكرها تشكل بؤرة الازمة السودانية و لا يستطيع كائن من كان ان ينكرها الا ان كان لدية غرض او مصحلة في الوضع الراهن.
    فما المخرج من هذه الازمة؟ استطيع من خلال هذه المعطيات ان اطرح احتمال حدوث المسارات التالية في شأن القضية السودانية:
    أ. دخول الصراع المسلح نفق الاستقطاب الجهوي و العنصري و الحزبي الحاد و التحول الي حرب اهلية علي غرار الصومال اذا لم يتدارك الجميع اهمية الحل السياسي العادل و العاجل.
    ب. تدخل القوي الاقليمية و الكبري ة في مايجري في السودان بغرض زعزة الاستقرار الامني و السياسي بصورة ما لمصالها القومية.
    ج. حدوث انقلاب عسكري من احدي التيارات القومية الوطنية لاعادة الامور الي نصابه .
    اذا كانت هذه هي اتجاهات تطورات السياسة السودانية فما هو المأمول لانقاذ البلاد؟ استطيع ان اقول مالم يتخذ التحوطات و الخطوات التالية من المؤكد ان يدخل السودان خلال الفترة القليلة القادمة في نفق الدول المنهارة و الخطوات الواجب اتخاذها هي:
    (1). اعتراف النظام بأخطائه و القبول بمؤتمر قومي للتحول السياسي في السودان بمشاركة كافة القوي السياسية بما فيها القوي الحاملة للسلاح.
    (2). اجراء تحقيقات عادلة و نزهية لمحاسبة الجرائم الاستراتيجية التي حدثت بما في ذلك جرائم ضدالانسانية و الفساد و جرائم الامن القومي.
    (3). وضع دستور انتقالي يشارك فيه كافة القوي الوطنية يحدد معالم و اتجاهات نظام ديموقراطي يلبي ظروف السودان و تطلعات شعبة.
    (4). اعادة هيكلة و تشكيل القوات النظامية بصورة قومية وبما يتماشا مع المهنية وتطوير مناهجها وكوادرها و اعادة صياغة العقيدة القتالية بما يخدم المصالح القومية و الوطنية .
    (5).التركيز مع التشديد علي قومية الاجهزة الامنية و الاعلام القومي و سمو المفاهيم القومية و الوطنية علي الاجندة الحزبية و الجهوية و سيادة دولة القانون.
    (6). ترقية و اعلاء قيم التسامح و التعايش ومنع و حظر الكيانات الجهوية و العنصرية التي تدعو الي الفتنة و المحاصصة.
    (7). تطوير القوانين التي تعضض قيم اعلاه وتجريم العنصرية و الجهوية.
    (8). اعتماد الشوري و الديموقراطية و التحول السياسي السلمي للسلطة و اعلاء قيمة الفرد كأساس للمجتمع الفاضل.
    الاخوة الكرام لا يخفي عليكم جميعأ ان السودان يحمل في طياتة اسباب تطورة و فناءه. لذا ارجو ان ينتبه الجميع الي هذة المرحلة المفصاية الدقيقة التي تمر بها البلاد, فاذا لم يتحرك الجميع, فان العاقبة لا تستثني احدا.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..