المعلم والرئيس

سبق وان تناولت في هذه المساحة قبل عام تقريبا أزمة التعليم في السودان وعقدت مقارنة بين التعليم في السودان واليابان، وكيف أجاب إمبراطور اليابان إجابته الشهيرة عندما سئل عن سر تقدم دولته في هذه الفترة القصيرة، عندما قال: بدأنا من حيث إنتهى الآخرون، وتعلمنا من أخطائهم، ومنحنا المعلم (حصانة الديبلوماسي) و(راتب الوزير).

النظرة المجتمعية في اليابان بشكل عام تجعل المعلم في المرتبة الثانية مباشرة بعد الامبراطور، ويتراوح في العادة راتب المعلم ما بين32 و68 ألف دولار في العام حسب مستوى تعليمه، إضافة إلى ثلاث علاوات تمنح له خلال العام الواحد بجانب البدلات المتعددة خاصة الإجتماعي والصحي منها، كل ذلك وصولاً إلى وضع أفضل للتعليم بالبلاد والذي بدوره يعني تقدم الدولة في كل المجالات، وهذا لا يتأتي إلا بتحسين بيئة العمل وتوفير إحتياجات المعلم ليقوم برسالته على الوجه الأكمل.

أما في السودان، فجميعنا يعلم أن المعلم الذي يواجه ظروفاً اقتصادية صعبة بسبب انخفاض الأجور وغياب التدريب، خاصة مع تدني الموازنات الحكومية المخصصة للتعليم، والتي لا تتجاوز 3% من الميزانية العامة سنوياً.

حيث يتقاضى المعلمين أجوراً زهيدة لا تكاد تكفي تلبية الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وفي بعض الأحيان لا تتجاوز الأجور 20 إلى 30 دولاراً (مع الإرتفاع المستمر للدولار)، مقارنة بالمعدل العالمي.

الوضع الماثل لرواتب المعلمين، وفي ظل الارتفاع المجنون لأسعار السلع الضرورية، مؤكد أنه سيضع مهنة التعليم على المحك ولن يترك امام المعلم سوى حلين لا ثالث لهما، إما مقاطعة المهنة الرسالية نهائياً والإتجاه لخارج الحدود حتى ولو في مهنة هامشية، وإما الإعتماد على الدروس الخصوصية التي تهلك موارد الاسر الهالكة اصلا، وإهمال الحصص بالمدارس بعد أن اصبح المعلم غائبا عن المدارس وحاضرا بالمنازل يخرج من بيت ليدخل بيت آخر مثله مثل الدلاليَة او عامل جبايات المحلية حتى وصل دخله من الحصة الواحدة لتلميذ واحد فقط تعادل نصف راتبه في شهر، الأمر الذي أثر سلباً على إستيعاب الطلاب بالمدارس وبالتالي تدني مستوى التعليم بشكل عام. ويبقى السؤال لماذا يرتضي المعلمين هذا الوضع المخزي والذي يسئ للمهنة الأكثر قدسية من غيرها، ويسئ اليهم أيضا وهم الذين يخرجون الرئيس والوزير والسفير، وهم الذين يتقاضون عشرات الملايين في الشهر الواحد.

هؤلاء لا يعرفون (طوابير العيش ولا الغاز ولا البنزين)، ولا يتدافعون في المواصلات بحثاً عن مساحة شماعة في البص أو الحافلة، ولم يقفوا في طوابير التأمين الصحي بحثاً عن نمرة طبيب لا تتجاوز العشرين جنيهاً، وهم الذين بإمكانهم وبأيسر الطرق إيجاد العلاج لأبنائهم في أفخم مستشفيات لندن وبرلين، وبالعدم الزيتونة ورويال كير.

المعلم في السودان نجح في تقديم الطبيب (رغم معاناته هو الآخر)، ونجح في تقديم الوزير والسفير والرئيس، ولكنه فشل في تقديم نفسه بالشكل الذي يتناسب و ما قدمه للمجتمع.

المعلم فشل في إيصال صوته للمسؤولين الذين أوصلهم بنفسه للمناصب التي يتباهون بها، وفشل في أن يحفظ للأجيال القادمة حقها في أن تقف للمعلم وتفه التبجيلا.

المعلم لا شئ يمنعه من رفض الوضع البائس الذي فرضه عليه ذلك (التلميذ العاق)، الذي يجلس الآن في مبنى فاخر، وعلى كرسي وثير، تحيط به الطيبات من كل الجوانب، يحمل القلم الأخضر ليحدد موقع المعلم صاحب الفضل ليكون أسفل أولويات الدولة.

المعلم هو الشخص الوحيد الذي إذ أشهر سيف الرفض البتار وتوقف عن ممارسة العادة السيئة في الرضا بالواقع المفروض عليه، فإنه حتماً سيحدث التغيير المنشود وسيقف الجميع في صفه، عندها فقط سيحدث التغيير المطلوب.

هنادي الصديق

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..