
كل ما جرى يعكس صراعًا طبقيًا عنيفًا، كان ضحاياه من الفئات المسحوقة من مزارعين، ورعاة، وعمال حرفيين، في مختلف أنحاء السودان. وقد نشأ هذا الصراع بفعل سيطرة سلطات تعاقبت على الحكم منذ عهد الإقطاع وحتى مرحلة الرأسمالية الطفيلية، مستغلةً الطبقات الدنيا في المجتمع.
هذه السلطات مارست القمع عبر أدواتها الموروثة، مستندة إلى أجهزة نظامية انقلابية، وشرطة وأمن لا تحترم الشعب ولا تعبّر عنه. وقد تأسست هذه الأجهزة على قوانين قمعية سنّتها الأنظمة المتعاقبة لإخضاع الجماهير، لا لخدمتها أو حمايتها. منذ انقلاب عبود وحتى عهد الإخوان المسلمين، مرورًا بالفترات الديمقراطية الهشة، لم تكن هناك إرادة حقيقية لتحقيق تحول ديمقراطي. كانت الديمقراطيات المؤقتة رهينة للمحاصصات وصراعات السلطة المريضة، ما قاد إلى إجهاض كل الفترات الانتقالية، واستمرار نهج الدولة الرأسمالية الطفيلية، مما فاقم التهميش وغياب التنمية المتوازنة، لا سيما في مجالات الصحة، والتعليم، والخدمات الأساسية.
لقد تجسّد هذا الظلم الاجتماعي في صور متعددة: من سحق سكان الكنابي في الجزيرة، إلى نظام الحواكير في دارفور، والإقطاع الزراعي في الشمال، وهيمنة طائفية سلبت المنتجين حقوقهم. وقد تجلى هذا الإقطاع أيضًا في الجزيرة أبا، والنيل الأبيض، وكردفان.
كل هذا يؤكد عمق الصراع الطبقي، ويُبرز ضرورة بناء نقابات وأجسام مهنية تعبّر عن مصالح الطبقة العاملة، استنادًا إلى تاريخها النضالي الممتد منذ أربعينات القرن الماضي. لهذا السبب، كانت هذه القوى النقابية دائمًا مستهدفة من قبل جميع الأنظمة، سواء كانت عسكرية أو مدنية رأسمالية، ساعية للسلطة والثروة على حساب القاعدة الشعبية.
ومن أبرز الأمثلة على هذا الاستهداف، المؤامرة التي حيكت ضد “جبهة الهيئات”، أول كيان نقابي مهني تصدّى لحكم عبود الرجعي المتحالف مع الإخوان المسلمين.
نخلص إلى أن غياب سلطة وطنية مركزية، ذات برنامج يستهدف التنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية، سيؤدي إلى مزيد من الانهيار. فالحل الجذري يكمن في إقامة سلطة شعبية، تُعلي من قيم الحريات، وتؤمن بالنقابات، ومنظمات العمل الجماهيري، وتدعم قوى سياسية تضمن استدامة الديمقراطية. وحده هذا الطريق كفيل بمعالجة جذور الأزمات التاريخية.
إن استمرار الظلم الاجتماعي، وترسيخ الفقر، وتكرار الأزمات، سيمزق النسيج الاجتماعي، ويهدد التعدد الثقافي والديني الذي يميز الشعب السوداني. وهذا ما سعت إليه جماعة الإخوان المسلمين عبر ترسيخ مفاهيم الاستعلاء العرقي والديني والثقافي، وصولًا إلى طرح مشاريع عنصرية مثل “دويلة النهر” و”دويلة البحر”، في تجاهل تام للتنوع الحقيقي في السودان.
أخيرًا، جاء ما سُمّي بـ”قانون الوجوه الغريبة” كمحطة جديدة في مسار القمع الاجتماعي وتكريس الاستبداد.
أما الميليشيات، فقد كانت أداة استراتيجية لإحكام السيطرة. صنعتها السلطة لتكون أدوات قمع بديلة للمؤسسات النظامية، مثل “الدفاع الشعبي”، و”الأمن الشعبي”، و”كتائب الظل”، وميليشيات الشرق، ثم ميليشيات دارفور بقيادة موسى هلال بعد إطلاق سراحه من سجن بورتسودان.
لقد توسعت صناعة الميليشيات لتشمل كل مناطق السودان، حتى بلغ عددها 28 ميليشيا، تموّل من خزينة الدولة، على حساب الصحة والتعليم والخدمات الأساسية. وهذا ما فجّر الحروب، وعمّق الهجرات، وفجّر التهميش، وفاقم الصراع الاجتماعي.
كل هذه الأزمات تنبع من تراكم تاريخ طويل من الظلم الاجتماعي، هدفه السيطرة باسم الرأسمالية الطفيلية، والشرعنة القمعية المستندة إلى استغلال الدين لقهر الشعب.
ما العمل؟
الحل يكمن في وحدة القوى الثورية المؤمنة ببناء سلطة وطنية ديمقراطية، تعالج جذور الأزمات، وتؤسس للعدالة الاجتماعية، وتحاسب المجرمين، وتكفل عدم الإفلات من العقاب. لا بد من تأسيس دولة مدنية عادلة، تقوم على قيم المواطنة المتساوية، وتبني مؤسسات نظامية، وعلى رأسها الجيش، وفق أسس قومية ومهنية، تُعلي من شأن الشعب وتحميه بدلًا من محاربته.
الديمقراطية، والتنمية، والعدالة، والوحدة الوطنية، هي الضمان الوحيد لمستقبل لا يُكرّر مآسي الماضي.
تحياتي وتقديري،
ولنا عودة.