عطش الطفولة

طفل يشرب الماء من وعاء يساوي حجمه في مخيم أقامته بعثة الأمم المتحدة جنوب السودان، لإيواء آلاف الفارين من الحروب القبلية في جنوب السودان. يشار إلى أن آلاف الأشخاص قتلوا ونزح أكثر من 800 ألف شخص عن منازلهم منذ اندلاع القتال في جنوب السودان قبل شهرين مع تفجّر الصراع على السلطة بين الرئيس سلفا كير ميارديت ونائبه السابق رياك مشار الذي عزل من منصبه في يوليو الماضي.
البيان
الراحل حميد بين مرارة الماضي ونبوءات المستقبل
الكاتب د / توفيق الطيب البشير منتدي التوثيق الشامل
عن الشاعرالراحل حميد حسن سالم
وأما حميد فقد كان له في هذا الباب أمر عجيب .. فقد تنبأ بخمس نبوءات، تحققت على زمانه ثلاثٌ منها، ومات عند وقوع الرابعة، وترك لنا واحدةً الله وحده يعلم متى تتحقق ولكننا نتوق شوقاً إليها ونتوقع حدوثها كل حين!
أما الأولى فنبوءته بإنشاء طريق شريان الشمال .. وحينها كان السفر إلى الخرطوم من شمال السودان عبر الصحراء فيه من المعاناة والمشقة والتيه والموت ما لايخفى على أحد وكان مشروع الشريان وقتها ضرب من الخيال المحض حين قال:
يا مطر عز الحريق
يا مصابيح الطريق
يالمراكبيي البتجبد من فك الموج الغريق
جينا ليك والشوق دفرنا يا المراسي النتحويبا
لما ينشعوت بحرنا
يا جزرنا وقيف عمرنا
يا نشوق روحنا ودمرنا
يا المحطات الحنيني القصرت مشوار سفرنا
وأما الثانية، فقد كانت سد مروي ذلك الأسطورة التي لم يصل حتى المسئولون آنذاك فيها إلى مجرد التفاؤل أو التذرع بالأمل .. كان حميد وقتها يحلم بخزان الحامداب …
يلاقوك شفّع الكتـّاب
نضاف وظراف بلا النسمى
يغنولك غناوى السـاب
وفى بيوضة مافى سراب
جبال كجبي وفيافى الكاب
تميد بى الخضرة …منقسمى
فيافى الصّى وبيوضة ..
البراسيم فيها مفروضة
خدارا يرارى شوف عينى
على الأبواب .. طواريها وحواريها
بقت روضة
بقت تشرب من الحامداب ..
تشوفى رهاب … بُعُد نجمى ..
بشوفو قريب قُرُب نضمى
وأما الثالثة فهي انفصال الجنوب عن سوداننا الحبيب، وقد تنبأ بالانفصال حين كانت الوحدة هي حديث المتمردين ورأسهم الأكبر جون قرنق .. كانوا يتحدثون عن السودان الجديد وعن تحرير السودان وضم وداي النيل وكان حميد يلمح إلى الانفصال ..
يا بت العرب النوبية
يا بت النوبة العربية
دسيني من الزمن الفارغ .. من روح المتعة الوقتية
من شر الساحق والماحق .. بين دبش المدن المدعية
والليل يتحكر بيناتا
كحّل بي دبشو عويناتا
يا شمس الناس المسبية
روحت اتنسم أخبارك .. لا تشفق قالو لي نصيحي
وأنا عارفك ممكونة وصابرة .. لكن لي ناس إلا تصيحي
جواي مأساتك مغروسة ..
يا طفلة تفتش في باكر ما بينات نخلة وأبنوسة
الجوع العطش الفد واحد .. الفقر الضارب زي سوسة
الخوف والحالة المنحوسة
يا بحر الحاصل .. لاك ناشف .. لا قلمي الفي إيدي عصا موسى
ولك أن تتساءل لماذا قال بت العرب النوبية ولم يقل بت العرب الزنجية وهو يتحدث عن الجنوب والشمال؟ فهو لا يريد ان يحدث وصفين للشمال والجنوب مثلما فعل حينما رمز للشمال بالنخلة وللجنوب بالابنوسة لذلك اختار سحنة اقرب الي تكوين النصفين، ولربما أراد أن يقول الأمر أبلغ من الشمال والجنوب! ولا شك أن في ذلك إشارة كذلك لما يجري الآن في منطقة جنوب كردفان كأحد أهم نتائج الانفصال! ومعلوم أن منطقة جبال النوبة هي منطقة حدودية طولية يدور حولها أعظم الصراع حالياً فاستخدم عبارة موحية لأمرين عنيفين أحدهما يتبع الآخر وينتج عنه أو ينتجه!ولماذا ربط قضية الانفصال بالجوع والعطش الفد واحد والفقر الضارب زي سوسة والخوف والحالة المنحوسة؟ لأنه إذن لم يكن يتنبأ بمجرد الانفصال ولكنه الحق به توابعه! ولعل الجميع شاهدوا هذا يحدث الآن في جنوب السودان بعد الانفصال.
ثم لماذا شبه ما جرى بقصة موسى وفرعون وبني إسرائيل؟ لماذا قال يا بحر الحاصل لاك ناشف لا قلمي الفي ايدي عصا موسى؟ ولماذا لم يختر أنموذجا غير انفصال البحر ونبياً غير موسى؟
لأنه هو يقارن بين الفصل الذي وقع في البحر لمصلحة بني اسرائيل بالحق حين كرمهم الله، وبالفصل الذي سيقع على اليابسة لمصلحة بني إسرائيل بالباطل بعد أن أذلهم الله! فكانت الأولى ابتلاء وكانت الثانية استدراجاً … وهذا لا يخفى على أحد! ..
وأما الرابعة فهي موته في صحراء بيوضة ! وقد تنبأ قبل ثلاثين عاماً بموته في الصحراء ولم يلتفت لذلك أحد، وتنبأ أنه سيموت بسبب الرمل الزاحف على شريان الشمال..
بالمد الثوري المتدافع .. فوق دربك تب ما متراجع
رغماً عن عنت الأيام .. والزمن الجهجاه الفاجع
ما رمل الدرب الوسطاني .. وكتين الراحل وصاني
لا ترجع ساكت يا شافع
لا ترجع شافع يا ساكت (أي أشفع بموتك(
خُتْ بالك وعينك في الشارع
لا ترجع .. لا .. لا
لا ترجع .. لا .. لا
لا ترجع .. لا .. لا
لا ترجع .. لا .. لا
ولك أن تنظر فقط إلى المفردات التالية : المتدافع .. الفاجع .. رمل الدرب الوسطاني .. خت بالك وعينك في الشارع … ما متراجع .. لا ترجع
ومن الغريب أنه ربط نبوءة موته بنبوءته الخامسة وهي عودة السودان بعد حين من الدهر إلى الوحدة وإلى مليون ميله المربع! وهذا ما يقوله الآن دعاة الانفصال انفسهم!
يا نورة شليلك ما فات
بي عدلو شليلك جاييكي .. ما جايي ألم التمرات
لا أبكي وأقابل بالفاتحة .. في زولاً ليّا مرض .. مات
جاييك أتزود من غلبك .. وأكفر خطأ غيمةً ما جات
نبحت لها كل المعمورة
والناس يوم تمرق مدخورة
يا نورة نشيلك غنوات
وآمال بي باكر مضفورة ..
طلابك وأقلامنا هويتك .. قدامنا قضيتك سبورة
رتّبنا الخرطة البتوصل .. أدِّينا الخاطر يا نورة
وهو هنا يتحدث بمرارة عما سيفعله الانفصال كمرحلة تاريخية حتمية سابقة لنبوءة الوحدة وهو خطأ الغيمة التي ستأتي محدثة الانفصال ( والغيمة يقصد بها الانفصال السلمي) وهو الامر الذي تنادت به وارتضته كل الدنيا فيا سبحان الله! جاييك اكفر خطأ غيمة ما جات نبحت لها كل المعمورة ! ومن منا لم يلاحظ الانحياز الواضح او الصمت الفاضح لما جرى لتقسيم السودان؟ ثم طمأن نورة قائلا يا نورة شليلك ما راح والناس يوم تمرق مدخورة يانورة نشيلك غنوات وآمال بي باكر مضفورة … طلابك واقلامنا هويتك قدامنا قضيتك سبورة رتبنا الخرطة البتوصل ادينا الخاطر يانورة ! ولك ان تتأمل كل هذه المفردات .. نعم كل هذه المفردات، وقد ألمح إلى ذلك جلياً وهو العودة مجددا الي الوحدة حين قال فيما بعد وبعد أن أصبح غبار الانفصال يشاهد في كل مساء ..
بلد صمي وشعب واحد
عصية على الانقسام
ولكل الذين يرون في نبوءة حميد بالعودة إلى الوحدة ضرباً من الخرافة أقول .. إن سد مروي كان أكبر خرافة، وكذلك انفصال الجنوب لمن كانوا يحلمون بالوحدة الجاذبة من أبناء الشمال والجنوب كان أكبر خرافة .. وستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود!
رحم الله شاعر الوطن ( حميد )