يحي فضل الله

تداعيات :صناعة الشهيد – الي الفاتح يوسف جبرة – تحديدا

وسط جمع غفير وهتافات تمجد البطولة و الإستشهاد و الدفاع عن الوطن ، كان هذا الجمع الغفير تتقدمه السلطة السياسية بكل رموزها من الرئيس و الوزراء نزولا الي مناصب اخري تتدرج في سلم الحكم و الإدارة ، وسط هذا الصخب السياسي كان رئيس البلدية يحاول ان يتذوق اثر خطبته تلك التي إنتقي كلماتها بعناية افقدته التواصل مع اسرته اياما وليال خاصة زوجته تلك الملحاح ، كان يحاول بين كل كلمة و اخري ان يتذوق ردود فعل رموز السلطة السياسية الكبار ، كان يصرخ بدرجة بحة كوميدية في صوته ، يصرخ بمعاني الفداء و البطولة ، يصرخ عن اولئك الذين يدافعون عن الوطن و يدفعون حياتهم دون خوف او وجل وحين وصل صوته المبحوح الي ذكر مناسبة هذا الإحتفال وهي تكريم البطل القومي و الشهيد ( جارا ) وصل صوته الي بكاء مبحوح خاصة حين يهتف بإسم ( جارا ) ممطوطا ليهتف بعده الشعب ( جارا ……. جارا …….. جارا )

بحضور كل هذا الجمع ، الشعب و الحكومة بكل تفاصيلها الدقيقة وغير الدقيقة تكرم البلدية الشهيد و البطل القومي ( جارا ) ، اعلن رئيس البلدية ان اسم البلد سيتغير و يصبح بلدة
( جارا ) تكريما لهذا البطل وبعدها ازاح الستار عن تمثال ضخم للشهيد ( جارا ) وسط هتافات مدوية من الجمهور المحتشد بحياة هذا البطل القومي و الشهيد المنتمي لهذه البلدة
( جارا………. جارا……… جارا………… جارا )
بعد ذلك خرج موكب الحكومة المهيب تاركا جموع الشعب تغني و ترقص علي انغام الاناشيد الحماسية التي تمجد هذا البطل الذي إستشهد مدافعا عن الوطن .
إنفض ذلك الإحتفال الصاخب و وقف رئيس البلدية ومعه مسئول كبير اخر يتأملان التمثال الضخم و المهيب للشهيد ( جارا ) ويدعي كل منهما علاقته الوثيقة بالشهيد ( جارا )

، يتجادلان الي درجة التشنج الحاد حول مدي صداقة كل منهما لهذا البطل و الشهيد القومي و يمجد كل منهما افعال الشهيد تلك التي عايشا تفاصيلها و اثناء ذلك الجدال المحتدم يقترب شخص رث الثياب ـ اغبر ، اشعث ، تستطيع ان تعرف من تحركاته انه صادق الجوع لفترة ليست بالقليلة ، إقترب ذلك الشخص من التمثال و تبول علي التمثال الامر الذي جعل رئيس البلدية والمسئول الكبير يركضان نحو ذلك الشخص لتوبيخه علي ذلك الفعل المزري و المبتذل لرمز الفداء والإستشهاد و لدهشتهما يجدان ان ذلك الشخص الذي تبول علي تمثال الشهيد ( جارا ) هو (جارا) نفسه ، ( جارا ) الذي من اجل إستشهاده كان ذلك الإحتفال المهيب و كان ذلك التمثال و كان ان تحول إسم البلدة الي اسم اخر منسوب اليه ( بلدة جارا ) ، هذا الرجل الذي تبول علي تمثال ( جارا ) هو ( جارا ) نفسه ، ( جارا ) لم يمت ولم يستشهد وهاهو ماثل امامها بلا لحمه ولاشحمه منهوكا من رحلة طويلة قاصدا بلدته ، وصل (جارا) اخيرا الي بلدته التي جاء اليها من تلك الحرب ، جاء وله اشواق و ذكريات يود ان يتجول في اماكنها ، جاء الي شوارع يألفها و تألفه ، جاء الي زوجته و اطفاله ولكن دخوله الي البلدة التي سميت بأسمه سيكون بمثابة فاجعة سياسية خطيرة و مربكة ، ماذا تفعل تلك الجماهير التي كانت تهتف قبل قليل بحياته التي وهبها للوطن ؟ ،

ما مصير هذا التمثال الذي نحت علي هيئته و اعلن عنه كرمز ؟ ، ثم ان النموذج الذي مجده رئيس البلدية بخطبته تلك العصماء كشهيد وبطل قومي قد إنهار تماما ، إذ ان (جارا ) لم يمت حتي يصبح شهيد ا وانه لم يكن بطلا لانه اعترف وبعفوية عن علاقته بمهام تجسسية مع العدو وانه له ميداليات تخص العدو ويبيع منها متي ما احس بالعوز يقيد حركته و انه لص و قاتل له ضحايا من ضمنهم القائد العام للجيش والذي هو الان اعظم شهيد للبلاد ، ( جارا ) قتل القائد العام الذي كانت قد اصابته رصاصة طائشة دون ان تقتله و حين وجده ( جارا ) علي تلك الحالة قتله بطلقة اخري علي رأسه كي يحصل علي النقود التي في جيبه و ساعة اليد و النياشين من علي زيه العسكري كي يبيعها للعدو وكانت الصحف والراديو و التلفاز والالسن تقول ان جارا قد دفن القائد العام في غمرة إخلاصه للوطن ، وهكذا ينهار النموذج و الرمز ( جارا ) و تنهار كل اعمدة الزيف السياسي التي كانت تحاول ان تشيد قلعة متينة من معاني البطولة و الفداء و الإستشهاد و
هاهو ( جارا ) الحقيقي امام تمثال ( جارا ) المزيف و يحاول رئيس البلدية ان يمنع ( جارا ) من دخول البلدة ولكن ( جارا ) شخصية بسيطة و ليست بهذا التعقيد السياسي ، انه يريد ببساطة شديدة ان يلتقي بأسرته فقط وان هذه الرغبة يحلم بتنفيذها حتي لو تم بعد ذلك شنقه في ميدان عام ، إنها تلك الاشواق العادية امام تعقيدات سياسية لا يستطيع ( جارا) الانسان البسيط ان يفهمها ، يحاول المسئول الكبير منعه من الدخول الي البلدة بإعطائه مبلغ مهول من النقود كي يرجع من حيث أتي و ان ينسي تماما انه ( جارا ) ويبدأ حياة جديدة خارج البلدة التي سميت بأسمه ولكن امام رغبة ( جارا ) تلك البسيطة تنهزم حتي النقود .

بعد جدال و صراع عنيف حول دخول ( جارا ) الي بلدته يطلق رئيس البلدية الرصاص علي ( جارا ) ليموت ( جارا ) الحقيقي ويبقي ( جارا ) التمثال والشهيد والرمز ، يموت ( جارا ) الحقيقي برصاص السلطة و يبقي ( جارا ) المزيف بإشتهاءات السلطة و غفلة الشعب و يصبح ( جارا ) شهيدا قوميا مصنوع بقدر لا يستهان به من السياسة .

هذه الحكاية ذات المغزي العميق كتبها الكاتب التركي الساخر ( عزيز نسين ) في شكل مسرحية قصيرة بعنوان ( جارا ) ، يهتم ( عزيز نسين ) في مسرحه وقصصه القصيرة و رواياته بتعرية الزيف السياسي و في نفس هذا الموضوع ، موضوع البطل المزيف او الشهيد المصنوع نجده في روايته ( زوبك او الكلب الملتجي بظل العربة ) يحكي حكاية عن هذا ال( زوبك) والذي هوسياسي علي درجة عالية من فنون التسلق السياسي ، يحشد ( زوبك ) اهالي القرية ويدعو مسئولين كبار في حكومة ( انقرا ) للإحتفال بشهيد تم إكتشاف عظامه في صحراء متاخمة لتلك القرية و من ثم تأتي شاحنات محملة بذبائح البقر و الضأن و يرقص اهالي تلك القرية و هم يحلمون بتلك اللحوم الكثيرة و لكن هيهات اذ رجعت تلك الشاحنات بلحومها الي سلخانات العاصمة تلك التي تم إستلاف ذبائحها لتفعل فعلها في ذلك الشعب الجائع المسكين ويفضح ( عزيز نسين ) حقيقة ذلك الشهيد حين يحكي لنا ان تلك العظام التي وجدت في الصحراء هي ليست عظام انسان و لكن إبعدت عنها جمجمة تعلن انها كانت لحمار .
وها قد تنوع و تكاثر علينا الشهداء حد ان اصبحنا نحن الشهداء و الشهود ايضا ا .

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..