اعلان تجاري ..!

«هناك دائماً طريقة أفضل».. توماس أديسون ..!
«قل للمليحة في الخمار الأسود/ ماذا فعلت بناسك متعبد/ قد كان شمّر للصلاة ثيابه/ حتى وقفت له بباب المسجد/ فسلبت منه دينه ويقينه/ وتركته في حيرة لا يهتدي/ ردي عليه صلاته وصيامه/ لا تقتليه بحق دين محمد» ..!
قيل بأن هذه الأبيات للشاعر الدارمي هي أول إعلان تجاري في العالم انطلق من المدينة المنورة، فقد كان أحد أصدقاء هذا الشاعر تاجر أقمشة حاول أن يبيع نساء المدينة خُمُراً عراقية سوداء اللون، فكسدت بضاعته لأن اللون الأسود لم يكن مرغوباً عند نساء المدينة..! وفي محاولة لإنقاذ صديقه قام الشاعر بـ «نجر» هذه الأبيات ودفع بها إلى مغني المدينة، فلم تبق امرأة إلا واشترت من صديقه التاجر خماراً أسود.. والسبب مفهوم بالطبع ..!
هكذا يقول مؤرخو العرب، لكن مؤرخي الغرب الذين لا يعرفون الدارمي بأن أول إعلان تجاري في العالم ظهر في صحيفة أسبوعية ألمانية عام 1591م.. بينما يقول آخرون أن بعض الرموز البدائية المنقوشة على الصخور والتي تعود إلى عصر ما قبل التاريخ لم تكن سوى إعلانات لـ «عرض خاص» على لحوم الفيلة ..!
وفي كتابه العميق «الإقناع الخفي» يناقش الكاتب الأمريكي «فانس باكار» حملات الدعاية الذكية والشريرة التي تلجأ الشركات – من خلالها- إلى حيل تعتمد على التأثير النفسي لغرس اسم السلعة أو الشيء المعلن عنه في نفس المستهلك لإحداث الأثر الإعلاني المطلوب.. وعن هذا يقول محذراً: إذا تركنا صناعة الإعلان من دون رقابة فسوف تسيطر على حياتنا ونصبح أسرى لها ..!
باكار معه كل الحق فقد أصبح الإعلان اليوم علماً قائماً بذاته يتكئ في مبادئه على نظريات علم النفس و الاجتماع ويستمد منهما أصوله بهدف الترويج للمنتج والسعي وراء المستهلك بأية كيفية ممكنة لتحقيق أكبر قدر من الكسب المادي، وإن كان ذلك على حساب قيم المجتمع وأخلاقه ..!
من هذا المنطلق تساهم بعض الإعلانات التجارية في التسويق لكلمات سوقية بذيئة تظل عالقة في أذهان الكبار و الأطفال على وجه الخصوص، وتحدث اضطرابات نفسية خفية في حياة الناس.. يدق ناقوس ما في ذهني كلما شاهدت معظم الإعلانات التجارية التي تنذر بالخطر والتي تعمل من خلال ذلك على «تنميط» هذه السلوكيات المنحرفة من خلال إقناع المتلقي – على نحو خفي- بأن يتصالح مع وجودها من حوله ..!
هنالك إعلانات لبعض أنواع «الشوكولاتة» والشامبوهات تعمل على ترسيخ مثل هذه الأفكار.. والذي يظن بي المبالغة أتمنى عليه أن يجعل من كلامي أعلاه خلفية يتكئ عليها في إلقاء نظرة متأنية فاحصة على هذا النوع من الإعلانات التي تروج لمعظم السلوكيات السالبة التي نشتكي شيوعها بين شبابنا.. الخطير في كل هذا هو أنه يؤثر فينا ببطء – وعلى نحو خفي – دون أن نشعر – حقاً – أنه يفعل ..!
اخر لحظة
لا أدري على عاتق من تقع إجازة نصوص ومقاطع الإعلانات بالقنوات التلفزيونية الحكومية والخاصة؟ لكن ما أعرفه أن الكثير من هذه الإعلانات تجاوزت الخطوط الحمراء للدين والأخلاق والأعراف السودانية المرعية.
أصبحت الإعلانات السودانية تمثل أحد روافد تجفيف الأبعاد الروحية والدينية المتأصلة لدى الشعب السوداني…….. بل أن كلمات بعضها عار من أي كنايات واستعارات بل هي عارية وعاهرة تماماً…….
اتخذ من طفلتي الوحيدة باراميتر لقياس نجاح أي إعلان تلفزيوني بقنواتنا الخاصة والعامة، والحق يقال لم يشدها أي إعلان تلفزيوني بتلك القنوات، كما لم تشدها السلع المعروضة!! وكم مرة طلبت مني أن أشتري لها مواد غذائية أو أدوات (خلاط أيس كريم) معروض في قنوات أخرى…. بل أنها تصر إصرارا شديداً على عملية الشراء….
بكل صراحة، أصبحت عُرى العرف والأخلاق تتفكك عروة عروة… كما أصبحت دائرة العيب واسعة وكبيرة وأصبحت تحمل في جوفها الكثير من المسلمات التي كانت تعتبر في الماضي القريب عيباً بل عيباً كبيراً…. يجب خضوع الإعلانات بالقنوات العامة والخاصة لمقص الرقيب الذاتي وليس الحكومي….. إذ يجب على صاحب السلعة التفكير فيما يحدثه إعلانه الفاضح قبل التفكير في الربح…….. ليس من المعقول أن يكون الرجل كثير الأموال وعديم الأخلاق…..