قصة قصيرة – سناء

” حادث بشع ياخ ” . هكذا ظل صديقى ” عثمان ” يردد و سيارته تتلوى بنا كالثعبان بين السيارات المحشورة فى قلب المدينة . أردف “عثمان ” بعاطفة جياشة ” مسكينة أختو ” . هكذا جاءت سيرتها تتهادى للمرة الأولى . وصلنا إلى المستشفى ، و بعد دقائق قضيناها قفزا على سلالمه وجدنا أنفسنا أمام غرفة بيضاء كالكفن . نقر “عثمان” على الباب ففتحته أنثى فى بدايات الثلاثينات . عانقت صديقى فى إلفة و هى تبكي فى تأثر . مددت لها يدى مصاحفا لكنها باغتتنى بعناق حار. انسكبت دموعها على صفحة رقبتى بينما أخذت يداها تشداننى إليها فى احتياج . هكذا فاجأتنى فى لقائنا الأول . قلت لعلها الغربة و كوامن شجنها الكثيفة ، فنحن فى بلد يدعوننا فيه أجانب رغم وحدة الدين و اللغة ، و هى وحيدة . قدمت لنا حلوى و هى تسأل عن أحوالنا و أحوال الأهل . جلسنا . نظرت إليها باشفاق وأنا أرى وجه أخيها ملفوفا بالقطن و ساقيه مرفوعتين إلى أعلى كجذعى شجرتين متجاورتين . قدمها “عثمان ” إلى بكلمة واحدة ” سناء ” . تأملتها بهدوء . أنثى متوسطة الجمال ، ليست بالقصيرة و لا بالطويلة ، لونها قمحى جدا ، لكن أكثر ما لفت انتباهى فيها عيناها . لم تكونا كأية عينين رأيتهما من قبل بل بدتا لى من فرط النقاء و كأن سماء تسافر فيهما . بدتا لى كما المطلق ، وكأنهما بلا ذكريات و لا آلام ، كأنما تقفان خارج تخوم الزمن . سألناها عن حالة أخيها و تكاليف العلاج فلم تزد أن قالت ” الحمد لله تعالى ” . ثرثرنا بعد ذلك ? ثلاثتنا ? فى شتى المواضيع . بعد قليل إستأذننا ” عثمان ” لبعض شئون على أن يعود لاحقا . طلبت منى ” سناء ” أن نجلس على الأريكة البعيدة فى زاوية الغرفة . حدثتنى عن حياتها فى إستفاضة غريبة . كلمتنى عن قبلتها الاولى مع ابن عمها ، عن دراستها الجامعية و عين كيف سطت صديقتها على خطيبها و تزوجته . حدثتنى عن عمها الذى استولى على ميراثها و ميراث أخيها بغير وجه حق . هكذا فتحت لى صفحات تاريخها بلا تحفظ . فجأة أمسكت بيدى و قالت مبتسمة بأنها تجيد قراءة الكف و تريد قراءة طالعى . طفقت تحدثنى عن سنى عمرى الاربعين التى انقضت . كانت و كأنها تطل على تفاصيل حياتى من ربوة قريبة فقد كان كلما ذكرته صحيحا . أذكر أن باب الغرفة كان وقتها مفتوحا و كان زوار المستشفى يروحون و يغدون و هم يروننا . فجأة وضعت رأسها على كتفى و أخذت تنشج نشيجا مريرا . لم تعر العيون المتلصصة انتباها . لم تأبه إلى أننا فى بلد لا تزال تحكمه التقاليد ، و لم تلتفت إلى حقيقة أنها ترانى للمرة الاولى . قالت لي بصوت هامس بأن قلبها مثقل بالشجن ثم وضعت يدي على نهدها الأيسر فى سهولة غريبة . هكذا – فى لحظة – أزاحت عن تلك البقعة من جسد الأنثى كل تواريخ الاشتهاءات ، و هدمت كل أسوجة “التابوز” التى بنتها ثقافات الكون حولها فى قرون طويلة . وضعت يدى علي نهدها و كأنها تضعها على كتفها مثلا . نظرت الى عينيها فاذا بنفس النظرة الهادئة الغريبة . لم ألمح ظلا واحدا من رغبات جسدية ، بل حدثتنى عن كيف توفى أبواهما فى حادث سير مماثل و كيف أن عمهما قام بتربيتهما فى الصغر قبل ان يسلبهما ممتلكاتهما فى الكبر . روت لى قصصا مؤلمة عن ظلم ذوى القربى . بكيت معها و كأن عيوننا شدت بخيط واحد . أنّ اخوها فى تلك اللحظة و بدا زبد أبيض يتدفق عن جانبى فمه . هرعت إليه و قبلته و هى تبكى بكاء محموما ثم ضمته الى صدرها فى حنو أم تضم وحيدها السقيم . فجأة ، إلتفت إلىّ و قالت وعيناها تلمعان إنها تريد أن تتجول فى أرجاء المدينة ، تريد أن تستمتع قليلا . فاجأنى انتقالها السريع من حالة إلى حالة مناقضة تماما ، من هنيهة حزن كثيف إلى هنيهة الفرح الكثيف . تكررت زياراتى لها . و فى كل مرة كانت تفاجئنى بنفس العيون الصافية و بنفس الانتقال الغريب من حالة الى حالة . بدا لى و كأنه ثمة باب سرى تنتقل منه روحها كسحابة من حالة الى أخرى . الزمان بالنسبة لها هو الآن ، لا ماض و لا مستقبل . الزمان خط موحد بالنسبة لها و هى تعيش بكل ثقل روحها فى اللحظة الراهنة . تفرح فتشهق من شدة الفرح و بعد ثانيتين تبكى فتنسى فرحها الذى كانت غارقة فيه قبل ثانيتين . حسدتها على تركيبها الغريب ، أنا المدفون كوتد خيمة فى ذكريات خطيبة هجرتنى و تزوجت زميلى الثرى ، أنا المطارد بطيف طويل القامة ، أسود الشعر ، مكتنز الشفتين ، و بحانات خمور عبها من طعننى فى الظهر . ذات يوم كنت أحدثها عن معاناتى مع الطبخ ( فأنا أعيش وحيدا ) حينما فاجأتنى برغبتها فى زيارة شقتى . اتفقنا أن أذهب هناك أولا على أن تلحق بى . تلك الليلة كانت ” سناء ” معطاءة كالنيل و ساخنة كصيوف بلادى . بعد ساعتين اتصلت بها . قلت أغازلها قليلا فردت على بصوت كأنه قادم من أقاصى تواريخ التعب . بدا لى و كأنها لم تعرفنى حتى . حدثتنى في ضجر مخيف . فجأة ضحكت و هي تخبرنى أن شقيقها بدأ في الاستيقاظ من غيبوبته . صحت فيها ” أريدك كاملة يا سناء ” فقالت في غموض ” إنتظرنى عند حافة الماء إذن ” !!
سافرت إلى محافظة أخرى بتكليف من الشركة التى أعمل بها . لم تتصل بى ” سناء ” طوال أسبوع كامل . و حين عدت زرتها فتلقتنى بنفس الدفق الوجدانى الغريب . غبت عنها ثانية فلم تأبه بى . تلك هى عادتها . حالما تخرج عن دائرة عينيها تستلك من وجودها تماما وكأنك شئ لا وجود له . لا تعاتبك هى على الغياب و لا تطالبك بأية واجبات تجاهها .
ذات مساء إشتقت إليها فذهبت إلى المستشفى . قلت أفاجئها بزيارة و أدعوها الى العشاء معى . طرقت الباب ففتح رجل خشن الصوت . علمت من الممرضة أن المريض السابق خرج من المستشفى بعد أن صفعت أخته طبيبا إدعت أنه غازلها .
بعد أيام زرت ” عثمان ” فى شقته . سألته عن ” سناء ” فقال بغموض وخبث أن العصفور قد طار إلى الأبد .سألته عما يقصد فقال ” عادت هى إلى السودان برفقة أخيها. و ذات يوم سمعت بمقدم شيخ مبارك إلى القرية فقصدته . رآها الشيخ فطلبها زوجة فى الحال . و هى الآن تعيش فى كنفه فى مسيده البعيد ”
آه يا ” سناء ” ، يا مغسولة بالنقاء و الغموض ، يا من يخيل إلىّ أحيانا أنك مجرد طيف صعلوك غشينى فى هدأة الليل ، لكم أشتاقك !!
…………
مهدى يوسف ابراهيم عيسى ( [email][email protected][/email] )
جدة
[email][email protected][/email]
رائع كدأبك دائما مهدى يوسف ابراهيم . شكرا علي هذه القصة عن هذه الفاتنة _ femme fatale _ سناء.
كان الله في عونك، ايها الراوي، وعون الشيخ حتى تزهق سناء روحه وجدا قريبا (فهي رغما عنها لا محالة فاعلة _ كحال كل ال femmes fatales في كل الدنيا 【يصرعن ذا اللب حتى لا حراك بة!】) وتعود اليك!
رائع كدأبك دائما مهدى يوسف ابراهيم . شكرا علي هذه القصة عن هذه الفاتنة _ femme fatale _ سناء.
كان الله في عونك، ايها الراوي، وعون الشيخ حتى تزهق سناء روحه وجدا قريبا (فهي رغما عنها لا محالة فاعلة _ كحال كل ال femmes fatales في كل الدنيا 【يصرعن ذا اللب حتى لا حراك بة!】) وتعود اليك!