كتاب ميزان المصير الوطني في السودان

كتاب ميزان المصير الوطني في السودان
عروةالصادق
[email protected]
يقام في الساعة العاشرة من صباح اليوم السبت 18 ديسمبر منتدى الصحافة والسياسة بدار الإمام الصادق المهدي وفيه يتم هذه المرة تدشين لكتاب الإمام الأخير (ميزان المصير الوطني في السودان) ونقاش له حيث سيشارك في النقاش عدد من السياسيين والصحفيين والمفكرين والكتاب والكاتبات كما تمت ممثلين للسلك الدبلوماسي.
مرفق تعريف بالكتاب والتصميم الذي يختم به سياحته الفكرية لتوجيه العمل الوطني إنقاذا للوطن بحق.
الجدير بالذكر أن صعوبات واجهت إدخال بعض نسخ الكتاب، وعلى صعيد آخر تنوي صحيفة الحياة اللندنية نشره مسلسلا في صفحاتها.
كما أن الإمام الصادق المهدي سوف يتوجه بإذن الله للدوحة في الأسبوع الأول من يناير القادم لنقاش الكتاب عبر قناة الجزيرة.
كتاب ميزان المصير الوطني في السودان: تعريف وتصميم
التعريف
يحرص الكاتب في كل المراحل المفصلية لمسيرة الوطن أن يكتب ما يوثق به للمرحلة وما يستشرف به ما بعدها بصورة تثري النجوى الوطنية وتساهم في نجاة الوطن: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) .
يعرف الكتاب قارئ العربية بجنوب السودان، ثم يروي بموضوعية قصة الحرب والسلام في السودان حتى انتهى الأمر إلى تقرير المصير وقصة اتفاقية السلام التي أوجبته وما تطلعت إليه من وحدة جاذبة والعوامل الموضوعية التي جعلت الانفصال جاذباً. ومآلات الاستفتاء ما بين وحدة على أساس جديد أوفر ندية أو انفصال أكثر أخوية.
في الفصل الأول من الكتاب تعريف بجغرافية الجنوب وبسكانه والمجموعات القبلية فيه وبتاريخه والتلاقي والتنافر في ذلك التاريخ مع شمال السودان، وقد رأيت ضرورة أن أعرف بهوية الجنوب في ظل قصور المناهج الدراسية الوطنية في التعريف بكافة مكوناته وسماتها إضافة لمشكلة تتعلق بالجنوب أن معظم الكتابات حوله باللغة الإنجليزية، كما أن الهوة التي تفصل بين شقي الوطن تجعل هويته غير معروفة لكثيرين.
الفصل الثاني من الكتاب يرصد أربعة روافد للنزاع: التنوع الثقافي والفشل في استيعابه بين النخبتين المثقفة والسياسية حتى تم الانتباه تحت قعقعة السلاح، والمظالم التنموية التي بدأت بتركة الاحتلال الأجنبي واستؤنفت في العهد الوطني وغالبيته شمولي لم يأبه بالعدالة الاقتصادية البتة، ومظالم اقتسام السلطة كذلك. كما تناول البعد الإقليمي للحرب مؤكدا أن السودان جزء من أنظمة نزاع إقليمية متعددة صبت في الحرب أو أثرت فيها وهي نظم نزاع القرن الأفريقي، والبحيرات العظمى، والشرق الأوسط، والحزام السوداني. ثم تطرق للوساطة الإقليمية لحل الحرب في الجنوب وكيف بدأت وساطة الإيقاد وتعثرت، وتدخلت الوساطة الليبية المصرية ثم خبت، وكيف في النهاية تحركت الإيقاد برافع دولي أمريكي في الأساس، وتحتها تم الوصول لاتفاقية السلام التي أنهت الحرب الأخيرة.
الفصل الثالث يفصّل (التراكم الخبيث) للنزاع عبر العقود بدءا بتركة الاحتلال ثم العهد الوطني، ويظهر هذا الفصل فروقات في ثقل تركة الحكومات العسكرية عن الديمقراطية، كما يظهر فروقا بين الحكومات الديمقراطية نفسها، ويثبت بطلان المقولة التي تساوي بين الجميع في وزر الحرب وإزكائها. نفس الشيء يوضحه الفصل الرابع (التراكم الحميد) إذ يتضح منه أن الحكومات الديمقراطية كانت دائما هي التي تسعى بجدية للحل والحكومات الشمولية هي التي تعقّد النزاع، وحتى تجربة اتفاقية أديس أبابا 1972م والتي استند فيها الطاغية على التحضيرات الديمقراطية ما لبث أن نقضها ففجر حربا أشد ضراوة.
الفصل الخامس (اتفاقية السلام) يروي كيف جاءت الاتفاقية وكيف ضاعت مقاصدها مع التنفيذ. فقد تتبع الفصل محطات التفاوض التي أدت للاتفاقية ببروتوكولاتها الستة، وذكر خطط التنفيذ المضمنة في الجداول وفي خطة الجام (البعثة المشتركة لتقدير احتياجات السودان) ثم تتبع السقوط في جانبين هما: الإصلاح القانوني المتفق عليه، والمفوضيات. وبعد ذلك تابع الفصل محطات الاختلاف والتفاوض المختلفة في الخرطوم وواشنطن والمكلة (أثيوبيا) ذاكرا كيف انقضت سني الانتقال في الطحان كرا وفرا.
الفصل السادس (صعود الإسلام وسقوط الإسلاموية) يتعرض لتجربتي التطبيق الإسلامويتين في السودان في مايو و”الإنقاذ”، وهما تجربتان ذواتا صلة قوية بملف الحرب في الجنوب، فالتجربة الأولى كانت مباشرة بعد تكوين الحركة الشعبية لتحرير السودان وقد زادت نارها حطبا، والتجربة الثانية جاءت أساسا لتستبدل السلام الذي كنا سعينا له في الديمقراطية ب(الإسلام) كما رآه مخططو انقلاب “الإنقاذ”.. وكان للتجربتين أثر بعيد فيما يتعلق بالمصير الوطني. وصف الفصل سقوطهما في مقياس الحق والشرع، وأكد أنهما لا تحسبان على الإسلام الذي هو في صعود عالمي برغمهما والتجارب الشبيهة.
الفصل السابع (الاقتصاد يجمع ويطرح) يتطرق للأداء الاقتصادي “الإنقاذي” ذاكرا أوجه الصرف الشمولية في التورم الأمني والسياسي والإداري ونزيف الفساد بالإضافة للسياسات الخاطئة مثل إهمال التنمية والخدمات والقطاعات الانتاجية والتفاوت والتمييز الجهوي وتحطيم القطاع الخاص واستبداله بقطاع خصوصي، وقلة التعاون الدولي، ثم ناقش البترول وأثره على الاقتصاد السوداني وعلاقة النفط بالسلام متعرضا للتشابكات المتعددة الإيجابية والسلبية، والتشوهات التي أضافها استخراج النفط في الخارطة الإنتاجية، مطالبا بأسس الإصلاح.
الفصل الثامن (مشاكل الجنوب الداخلية) يذكر في بدايته علاقة الكاتب وكيانه السياسي بالجنوب والأسباب التي عرضتها للتشويه المقصود وذكر كيف أن كثيرين من الجنوبيين يدركون الحق من الباطل حول تلك التشويهات ولكنه لتلك الحساسيات سوف يستند على كتابات غربيين في الغالب للإشارة لما يعانيه الجنوب الآن من مشاكل وما يمكن أن يعانيه مستقبلا حال انفصاله في دولة مستقلة، فقد أشارت الكتابات المستشهد بها لمشاكل النزاع القبلي الداخلي وحول حدود القبائل، وانعدام الثقة في حكومة الجنوب من قبل قبائل عديدة مما يجعل مهمة نزع السلاح نفسها أحد أسباب النزاع والمواجهات (ولاية جونقلي كمثال) وهذه الكتابات كلها تستبعد بدرجات متفاوتة أن تكون هذه النزاعات بسبب تدخل الخرطوم، كما في بعضها توقعات لما بعد الانفصال بحدوث منازعات داخلية ومع دولة الشمال وأن تتكون دولة غير مستقلة من التبعية الخارجية، كما تم الاستشهاد بمناداة كاتب جنوبي انفصالي يقطع بأن الإدارة الحالية فاشلة ويطالب بأن يدار الجنوب عبر ولاية الأمم المتحدة. وأكد الفصل على ضرورة مخاطبة هذه المشاكل بعيدا عن تعليقها دائما على الشريك اللدود.
الفصل التاسع (دارفور قاصمة الظهر) يروي ما حدث في دارفور منذ اشتعال الحرب حتى توقيع اتفاقية أبوجا 2006م ثم تطور المبادرات بعدها مؤكدا ضرورة الاستناد على هذه التحضيرات الهامة وآخرها وأهمها وثيقة هايدلبرج، والإقلاع عن (إستراتيجية سلام دارفور) التي أعلنها النظام هذا العام باعتبار أنها لن تزيد الأمور إلا خبالا.
الفصل العاشر (دروس الانتخابات للعام القادم) يذكر أهم ملامح الطبخ في انتخابات 2010م والدروس التي تلقيها على الاستفتاء بضرورة تجنب إقامته كيفما اتفق وبنفس طريقة الانتخابات فلا بد من مراعاة الحرية والنزاهة والتراضي حول إدارته والاعتراف بنتيجته من جميع الأطراف.
الفصل الحادي عشر (الاستفتاء) يتعرض لقانون الاستفتاء لسنة 2009م والصعوبات العملية التي تكتنف إجراء الاستفتاء وفق ما هو مخطط وينادي بإدارة دولية للاستفتاء بدلا عن الوطنية التي حتما سيُختلف على أدائها، ويذكر القنابل الموقوتة التي تكتنف المسألة. أما الفصل الثاني عشر(ما بعد الاستفتاء) فيذكر قضايا ما بعد الاستفتاء الواردة في القانون، ويضيف إليها قضايا أخرى هامة ويرافع من أجل ضرورة تقديم شروط جديدة للوحدة لأنها في الشروط الحالية غير ممكنة، ويضع خريطة طريق للمستقبل ليجري الاستفتاء بشكل متفق عليه ويؤدي لوحدة على أسس جديدة ندية أو انفصال أخوي.
الفصل الثالث عشر (الآفاق الدولية) يذكر التدخل الأمريكي في التوسط والضغط من أجل إنفاذ اتفاقية السلام، والبعد الإقليمي وتأثيراته وتأثره بما يجري في السودان، والبعد الدولي المتعلق بملف دارفور والمحكمة الجنائية الدولية، والمطلوب لتجاوز قصور التدخل الدولي الحالي حيث يفصل بين قضايا مرتبطة محوريا في استبعاده لقضية دارفور، ويركز على التدخل الشكلي لتأمين قيام الاستفتاء في موعده بدون المعالجة الجوهرية المطلوبة وضمان حريته ونزاهته.
قال الكاتب،
لا أحد يزعم أن انقلاب “الإنقاذ” هو صانع مشكلة الجنوب ولكنه هو الذي اتبع سياسات جعلت تقرير المصير محل إجماع القوى السياسية الجنوبية في أكتوبر 1993م لأول مرة في تاريخ النزاع الشمالي الجنوبي. وهو الذي بموجب بروتوكول ميشاكوس وتقاسم الثروة قسم البلاد على أساس ديني فوضع أساساً جهويا للانفصال. وجعل للانفصالي الجنوبي حافزاً إضافيا بالتطلع للانفصال لإبقاء كل بترول الجنوب للجنوب.
لا أحد يجادل في وجود مشاكل في دارفور ما قبل “الإنقاذ”: فجوة التنمية، ونزاع الموارد، وصراع القبائل، والنهب المسلح. ولكن سياسات نظام “الإنقاذ” هي المسئولة عن صناعة التسييس الإثني في دارفور، ونشأة الأحزاب المسلحة المعادية للحكومة المركزية، والتعديات الصارخة على حقوق الإنسان ما خلق مأساة إنسانية غير مسبوقة، وهو الذي استدعت سياساته تسعة وعشرين قراراً من مجلس الأمن بعضها تحت الفصل السابع ما دوّل الشأن السوداني. وفي السنوات الأربع منذ 2006م بعد إبرام اتفاقية سلام جزئية في أبوجا تعقدت مشكلة دارفور بصورة هائلة، والموقف الآن أن كل المواجهات في دارفور مع الأحزاب المسلحة المعروفة ما زالت مستمرة يضاف إليها أن من وقعوا اتفاقية أبوجا انتقلوا الآن لصف المعارضة وأن سياسات النظام المتناقضة قد خسرت جزءاً كبيراً من العناصر العربية التي استقوت بها في مرحلة سابقة. وصارت الحركة الشعبية الآن تقوم بدورٍ أكبرٍ في إيواء الحركات الدارفورية المسلحة والتعاطف معها تحت عنوان نصرة المهمشين.
أزمة دارفور منذ بدايتها تداخلت معها أزمة الحكم في تشاد. ومع أن المناخ الرسمي بين حكومتي الخرطوم وانجمينا تحسن فقد نشط التواصل بين المعارضة التشادية المسلحة والدارفورية.
اتفاقية سلام نيفاشا التي بشرت أهل السودان بجعل الوحدة جاذبة للناخب الجنوبي، وبحكم انتقالي جامع القاعدة، ولكن لم تحققهما؛ بشرت كذلك باعتماد حقوق الإنسان والحريات العامة المنصوص عليها في المواثيق الدولية جزءاً لا يتجزأ من الدستور والقانون السوداني. ولكن الاتفاقية أوجبت أن تستمر الأحكام الشمولية القائمة مطبقة إلى أن تستبدل فلم تستبدل إلا بقوانين أكثر تقييداً وظلت القيود باقية على طول الفترة الانتقالية.
واستبشر الشعب السوداني خيراً إذ استطاع النظام السوداني استغلال بترول السودان المكتشف منذ 1979م.
ارتفع إنتاج البترول السوداني حتى صار حوالي نصف مليون برميل في اليوم ومع ما جرى من ارتفاع في أسعار البترول عالمياً أدخل تصدير البترول في الفترة من 1999- 2010م حوالي 50 بليون دولار.
ولكن نعمة البترول هذه انقلبت في التجربة السودانية إلى نقمة لخمسة أسباب تبرر أن نطلق على التجربة السودانية البترولية “النقمة السودانية”:
1. العائد البترولي في السودان أثار أشواق الوفرة وأحدث زيادة في الناتج المحلي ولكنه بسبب السياسات الخاطئة في استخدامه لم يرفع مستوى التنمية البشرية بل على عكس ذلك أحدث زيادة في الفجوة الاجتماعية بين قلة بالغة الثراء وكثرة بالغة الفقر.
2. الإصابة “بالمرض الهولندي” وهي أن يكون هناك قطاع في الاقتصاد يساهم بشكل أكبر في التصدير فيرفع سعر صرف العملة الوطنية ما يضعف القدرة التنافسية للقطاعات الأخرى ويساهم في ظاهرة اختفاء تعدد الموارد والاعتماد على مصدر واحد.
3. ساهم المشهد النفطي في جعل الانفصال جاذباً وذلك بخلق انطباع جنوبي أن المؤتمر الوطني ليس حريصاً على الوحدة مع إنسان الجنوب بل مع موارده. وإعطاء حجة للانفصالي الجنوبي أن الوحدة تكلفنا “خراجا” ندفعه للشمال وانفصال الجنوب يمكننا من تحصيل كل عائد بترولنا.
4. وانعكست فجوة الثقة بين شريكي اتفاقية السلام حول حسابات البترول فالحركة الشعبية تتهم المؤتمر الوطني بالتلاعب في حسابات البترول ما يقلل حجم الإنتاج وأسعار بيعه وبالتالي نصيب الجنوب من عائد البترول. اتهامات ينفيها المؤتمر الوطني وإن دعّمتها بيانات منظمة الشاهد العالمي Global Witness التي قارنت بين الأرقام التي تنشرها وزارة الطاقة السودانية وشركة الصين للبترول وكشفت المفارقة.
5. الاعتماد على البترول وإهمال الموارد الأخرى جعل البترول يمثل 90% من عائدات صادرات السودان. ويمثل 60% من إيرادات ميزانية الدولة.
هذه الحقائق جعلت سعر صرف الجنيه السوداني بل وجدوى الاقتصاد السوداني معتمدة بصورة مخلة على نصيب الحكومة السودانية من عائدات البترول.
لذلك ومع دنو موعد الاستفتاء وزيادة احتمال أن يؤدي للانفصال واختفاء معادلة التقاسم المستمدة من بروتوكول تقاسم الثروة فقد انتشر الرعب في الأوساط الشمالية بصورة انعكست في تدني الثقة في اقتصاد البلاد وهروب الأموال وتدني سعر صرف الجنيه السوداني.
لم يشهد السودان في تاريخه أبداً هذا العدد الموجه ضد حكومته من قرارات مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة أي باعتبارها خطراً على الأمن والسلام الدوليين. ولم يشهد السودان أبداً منذ استقلاله وجوداً عسكرياً دولياً بلغ حتى الآن في حجم أونميس ويوناميد ثلاثين ألف جندي أفريقي ودولي.
ومواكبة لهذا التدويل صارت القضايا السودانية جزءاً من الأجندات الداخلية لكثير من البلدان فتعدد المبعوثون الخاصون الذين تبعثهم الدول للسودان والمؤتمرات الدولية المعنية بالشأن السوداني بل وهجرة القضايا السودانية للمطابخ الخارجية بصورة غير معهودة وذلك كله على حساب السياسات الوطنية.
الأزمات الداخلية وإخفاقات النظام في حلها، وتمنعه من أية محاولات لحلها قوميا، وترحيبه بلا حياء بأية مبادرات أجنبية هي العوامل التي أدت إلى تدويل الشأن السوداني.
هذه الصورة المأسوية للحالة السودانية تشاركها في المأساة الحالة الجنوبية.
الحركة السياسية السودانية (باستثناء المؤتمر الوطني) تظهر تعاطفاً واضحاً مع الحركة الشعبية، كذلك الأسرة الدولية كما ظهر جلياً في اجتماع نيويورك في سبتمبر الماضي وزيارة مجلس الأمن للسودان في أكتوبر الجاري. ولكن الباحثين والصحافة الغربية الجادة ركزت على عيوب تجربة الحكم الحالية في الجنوب. هذا ما كشفته دراسة: “جنوب السودان متناقض مع نفسه” للباحثين ماريك شوميروس وتيم آلن. والصحف الاكونمست ونيوزويك، جاء في الأخيرة: لقد حظي الجنوب بدعم غربي وأمريكي كبير ولكنه فشل في بناء مؤسسات الدولة. وحسب تقرير صادر في يونيو 2010م من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية فإن برنامج بناء القدرات في الجنوب معيب وأكبر الاحتمالات أنه فاشل.
وينسب كاتب في نيوزويك لدبلوماسيين غربيين ومنظمات إغاثات إنسانية قولهم إنه إذا تم الانفصال فإن الجنوب غير مستعد للاستقلال. وانتهى لمقولة: نحن متحمسون لدعم الجنوب، ولكن لا توجد قدرات فيه لتوظيفها بصورة صحيحة.
ومهما أكد القادة أن لا عودة للحرب فإن المراقبين إذ يتابعون الواقع يرون الحرب قادمة حتى أن جون براندرقاست وهو من المتعاطفين في الأصل مع قضية الجنوب قال: ما فائدة هذا الدعم الذي نقدمه إذا كانت الحرب آتية لتدمره؟ إننا إنما نشيد قصراً في الرمال وتتجه موجة عارمة نحوه!
النظام السوداني الانقلابي أسس شرعيته على أيديولوجية إسلامية. وفي التعامل مع الواقع أحدث فيها تراجعات براجماتية دون أن تكون جزءاًً من منهج صحوي إسلامي ما فتح باباً للإسلاميين المنكفئين، ومن منطلقاتهم صرفوا على إجراءات النظام إداناتهم التكفيرية. ولم يستطع النظام تقديم أيديولوجية إسلامية صحوية بل اكتفى بالتراجعات العملية دون تفسيرها أو نسبتها لإطار عام. هذا كله سحب من شرعية النظام الإسلامية.
وركز النظام على شرعية استمدها من اتفاقية السلام. هذه الشرعية تآكلت إذ أخفقت اتفاقية السلام في تحقيق مقاصدها.
والحقيقة هي أن أداء النظام في الملفات الهامة الأخرى كما يبين هذا الكتاب جرده من أية شرعية إنجازية.
كانت الانتخابات الأخيرة في أبريل 2010م وسيلة لمنح النظام شرعية ديمقراطية ولكن كما يبين كتابنا بصورة موثقة لم يحقق النظام تلك الشرعية الديمقراطية عبر الانتخابات. وإن كانت نتائجها قد أصابت النظام بغطرسة السلطان فوقع منذ الانتخابات في مزيدٍ من أخطاء العناد والانفراد.
إذن عبر كل الملفات الداخلية الهامة تعرت شرعية النظام. وتعريتها في المجال الدولي أوضح: النظام السوداني لا يقبل شريكاً في المسائل الدولية بل ستكون حركته الدولية مشلولة وعلاقاته الدولية عرضة للإهانة. فلا يعقل أن يشترط زوار البلاد تجنب مقابلة رأس الدولة!
ذكر لي أحد المسئولين في البنك الدولي أن البحث جارٍ في كيفية إعفاء نصيب الجنوب من الدين الخارجي لا الشمال لأسباب تتعلق بالتجريم. ولنفس هذا السبب لا يستطيع النظام أخذ نصيب في برنامج كوتنو التنموي، ولا مشروعات الألفية ولا تعويضات التلوث البيئي التي قررها مؤتمر كوبنهاجن (2009م). هذا معناه تآكل الشرعية الدولية. هذا التردي في الشرعية بكل مفاصلها يجعل النظام معتمداً على القوة وحدها ما يخلق فراغاً يفتح الباب واسعاً لكل أنواع المغامرات: من داخل النظام وخارجه.
هذه المغامرات في ظروف السودان الحالية تفتح أبواب الشيطان!
أبواب الشيطان تُفتح إذا استمرت الحالة كما هي. وتُفتح إذا استدعت مغامرات الإطاحة بها.
فما العمل؟
هنالك أجندة وطنية واضحة المعالم لا يختلف عليها وطنيان إن تحدثا بصدق هي:
1. ضرورة إجراء استفتاء حر ونزيه وإجراء استحقاقات النزاهة ليقبل الكافة نتائجه.
2. ضرورة إيجاد آلية فعالة للتعامل مع كل القضايا الخلافية والحيلولة دون ما تحتمل من اقتتال.
3. الاتفاق على أسس جديدة للوحدة تزيل عيوب اتفاقية السلام وتحقق إصلاحاً قائماً على الندية وعلى الشمول القومي لكل مناطق السودان.
4. الاتفاق على علاقة خاصة بين دولتي السودان في حالة الانفصال تحد من غلو المفاصلة وتحقق المواطنة المتبادلة، والحريات الأربع وزيادة، وتضع مظلة واسعة للتكامل بين الدولتين.
5. برنامج وطني شامل يكفل حقوق الإنسان والحريات.
6. إصلاح اقتصادي جذري على نحو ما نفصّل لاحقاً.
7. إصلاح لعلاقات البلاد الخارجية قائم على معادلة وافية يقبلها مجلس الأمن.
هذا البرنامج تقرره قمة سياسية قومية سودانية جامعة ولتنفيذه تكون حكومة قومية تلتزم بالدعوة لمؤتمر قومي دستوري لوضع خريطة طريق لدستور البلاد الدائم ولإجراء انتخابات حرة ونزيهة في الوقت وبالصورة المتفق عليها. وأن يجري قبل ذلك تركيز خاص على حل أزمة دارفور لأن بقاءها ما بعد الاستفتاء يعقدها.
ما لم يحدث هذا وبسرعة فإن استمرار الحالة على ما هي عليه يفتح أبواب المغامرات الداخلية والخارجية ويعرّض البلاد للبلقنة والصوملة.
هذا الكتاب مرافعة من أجل شرعية قومية جديدة يحققها أهل السودان فيصنعون من الأزمة فُرصة، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) .
تصميم
شخّص هذا الكتاب القضية السودانية في أحد ملفاتها المصيرية. كان تشخيصا محيطا بقدر ما تمكن منه قدرات الإنسان العقلية والإلهامية. ولكنه لم يكن ولا ينبغي أن يكون تمرينا أكاديميا يقف عند حد الإتقان والاستحسان. إنه تعريف بالصواب ومرافعة من أجله وحض على العمل لتحقيق مقاصده على نحو ما فصلنا في التعريف.
كان الأستاذ على مزروعي قد استعرض حالة الدول الإفريقية بعد استقلالها وهاله سوء حالها ومعاناة شعوبها فدفعه تشاؤمه من حالها إلى اقتراح نوع من استعادة الوصاية الإمبريالية:
كفى بك داءا أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا!
إذن ليس السودان فريدا في تأزم صنعته أخطاء النخب الحاكمة وجره ضعف مؤسسات الدولة وهشاشة التكوين القومي لشعوبها.
ميزة الحالة السودانية أن في البلاد هامش حرية يسمح بحركة في مجال المصير الوطني. وفي السودان هامش تسامح يسمح بتواصل بين القوى الاجتماعية فيه لتتدارك نفسها وتتنادى لنجوى حميدة حول مشروع أكثر جدوى لبناء الوطن. دوام حال البلاد على أساس وضعها الدستوري والسياسي الحالي مستحيل فدولة السودان الحالية كلوحة محرمات الطعام مائجة بالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع. استمرار غير مجد سواء استمرت متحدة أو تجزأت جزأين يحملان سمات الحاضر.
التحدي أمام شعبنا هو الإقدام على هندسة جديدة لبناء الوطن الواحد أو الوطنين التوأم.
وجود وطن ديمقراطي مستقر، موفق بين التأصيل والتحديث، وبين التنمية والعدالة وبين استقلال الإرادة الوطنية والتعامل الايجابي مع الأسرة الدولية؛ مصلحة كبرى للشعب السوداني الذي أرهقته المعاناة وسوف يواصل دفع ثمن غالٍ من عرقه ودمه إذا فاتته تلك المقاصد.
وهو كذلك في مصلحة دول الجوار التي سوف تلهمها القدوة السودانية أو تضرها الكبوة السودانية.
ومجلس الأمن الدولي إذا هو صدق مع وظيفته التي خطها ميثاق الأمم المتحدة معنيٌ حتى النخاع بالحالة السودانية القابلة للانتشال أو الاشتعال.
لأسباب كثيرة كان وسيظل للولايات المتحدة دور هام في بناء السلام في العالم سيما السودان. ولكن كما قال زيغبنيو برزنسكى: بين قدرات أمريكا الإستراتيجية الهائلة ومستوى الحكمة في سياساتها فجوة ما لم تجسّر لن تستطيع أداء دورها بصورة تخدم البشرية.
من أهم مصالح أمريكا المعلنة احتواء “الإرهاب” ولكن أعمالها المشاهدة اليوم في أفغانستان، وفي العراق، وفي فلسطين، وفي باكستان، وفي الصومال، وغيرها فاشلة في تحقيق مقاصدها. والنتيجة أن “القاعدة” اليوم أوسع انتشارا في شرق أفريقيا، وفي غربها، وفي قرنها وشمالها. فإذا صار السودان دولة واحدة أو دولتين كسيحتين فسوف يفتح ذلك مجالا واسعا لكل أصناف الإرهاب.
الرأي العام الأمريكي اليوم معبأ وديا لصالح جزء من السودان وعدائيا ضد الجزء الآخر. ولكن السياسة الرشيدة توجب على أمريكا الاهتمام بعافية السودان الموحد أو دولتي السودان.
المؤتمر الوطني ربط الشمال بحربه واتبع سياسات جلابة لكسب العداوات. ولكن لا ينبغي أن يعامل شمال السودان كأنه صنيعة لحزب من الأحزاب قابل أن يغير سياساته أو أن يزول وجوده. ناهيك عن أن يكون ذلك الحزب حزب أقلية استولى على السلطة بطريقة غير شرعية.
لنقرأ معا صحيفة الإرهاب. الإرهاب مقيت أخلاقيا وهو ينافى أحكام القتال في الإسلام. ولكن لا شأن للإسلام به؛ إنه خطة احتجاج يلجأ إليها الضعفاء في مقاومة الأقوياء وقد مارست صورة منه كل الشعوب وفي كل الأديان. وحتى الاستقتال الذي يسمون أصحابه انتحاريين ممارسة شائعة بين كثير من أهل الملل والنحل على نحو ما شرح ووثق العالم الأمريكي روبرت بيب في كتابه: الموت من أجل الكسب.
وفي عامنا هذا (2010م) نشر نائب رئيس مجلس الاستخبارات القومي التابع لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السيد جراهام فوللر كتابا بعنوان: “العالم بدون الإسلام”. تساءل فيه: ماذا لو أن الإسلام لم يوجد أصلا في منطقة الشرق الأوسط؟ قال: بعض الناس يحسبون هذه نعمة وتعني عالما بلا صراع حضارات، وبلا حروب مقدسة، وبلا إرهاب، وتطرق الكتاب لأحوال الشرق الأوسط عرقياً واقتصادياً وليس دينياً. وحتى إذا لم يكن الإسلام موجودا فإن ما في المنطقة من اضطرابات سوف تكون موجودة ما دامت هناك مظالم فإنها سوف تستدعي احتجاجات بصرف النظر عن عقيدة الناس الدينية.
قال: الإرهاب سلوك يلجأ إليه الضعفاء لمقاومة الأقوياء. الإرهاب ظاهرة لن تختفي إلا بإزالة أسبابها.
قال: يمكن أن نقضى عليه إذا اتبعنا ستة إصلاحات:
? إجلاء قواتنا من أراضي الشعوب الإسلامية.
? وضع حد لدعمنا الطغاة من حكامهم .
? وقف محاولة إملاء نظم الحكم على شعوبهم.
? حل عادل لمظلمة الشعب الفلسطيني.
? مساعدة التنمية البشرية من صحة وتعليم في تلك البلدان.
? لقد صرفنا على مغامرات عسكرية فاشلة ثلاثة ترليونات من الدولارات لو أنفقنا عشرها على التنمية البشرية لاكتسبنا صداقة الشعوب.
وهذه النصائح هي تقريبا ما جاء في كتاب مايكل شوير (السير إلى الجحيم) باعتبار أن ما تقوم به الولايات المتحدة الآن ليس هو الحل وسيرديها الجحيم في النهاية.
إن تعاطف الولايات المتحدة مع أهلنا في الجنوب عاطفة حميدة ما لم تنحرف من مسارها وتوظف لإستراتيجية عدائية لبقية أهل السودان. إذا ساد انطباع أن أمريكا تبطش بشعب مسلم في السودان فسوف يكون لهذا الانطباع أثره في زيادة كراهية لأمريكا وبالتالي تزويد الغضب ومآلاته الإرهابية. نعم نحن نستدعى موقفا أمريكيا ايجابيا من أجل بناء الوطن في سودان موحد أو سودانيين متآخيين.
إنه موقف مع أهميته لا يجدي ما لم يسبقه تصميم سوداني قوى للخروج من المستنقع الآسن، وبناء الوطن الواحد أو الوطنين المتآخيين. هذا ما ينبغي أن تعمل من أجله الإرادة السودانية الوطنية الصاعدة. ولكن: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) . والقاعدة التي أثبتتها تجربة الإنسان وأكدتها حقيقة الوحي: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) .
نسأل الله أن يلطف بوطننا ويمن علينا، ويجعل لنا من أمرنا رشدا.
اكيد السيد الصادق راجل موسوعة وراجل وطنى من الطراز الاول بس عيبو ما قدر يوائم بين الحكم وما يحملة من فكر لكن يرجى منه الكثير رغم اختلافى معه ايدلوجيا وفكريا ولكن احترمه كسياسى يحترم نفسه واحترم فيه عفته ونظافة يده واعتزازه بنفسه وتواضعه فى آن واحد ونتمنى ان يكون قد استفاد من ماضى تجاربه فى الحكم والتحية للامام