مقالات سياسية

نزيف الشهداء .. والتطبيع مع الموت

د. حامد برقو عبدالرحمن

 

 

(1) أيام تواجدي في أدغال إحدي دول غربي أفريقيا ؛ فقد أحد البدو إبنه الذي لم يبلغ التاسعة من العمر . والبدوي معروف عنه رباطة الجأش وقوة الشكيمة إلا ان والد الطفل الذي دفن إبنه الأكبر قبل عام فقط لم يحتمل فقدان الثاني. برغم ان بعض الأشلاء قد وجدت ودفنت حيث تأكد للناس بأنه قد أكله الذئب.

إلا ان البدوي قد دخل حالة الإنكار الناجمة عن الصدمة ، فطفق يبحث في كل مكان ويحث الاخرين على البحث . طلبت من الطاقم الذي كان معي ان نذهب للبحث عنه حول مكان اشتبه به. كان في شهر رمضان قائظ والمكان لايسمح بدخول السيارات ، سرت بالأقدام لبضع كيلومترات وساعات فقط لأعزي نفسي بأنني قد فعلت ما بوسعي تجاه الرجل المكلوم ومن ان أجل عيون طفل آخر يبعد عني آلاف الكيلومترات ويماثل الطفل المفقود في العمر !! .

ثم عدت الي الرجل وقلت له من الشرع ان نكرم أجساد الموتى بالدفن ، لكن المهم ليس هو الجسد ، انما الروح ، وإن روح إبنه قد صعدت الي السماء ولم يأكلها الذئب ولن يفعل . لذا عليه ان ينسى البحث عن الجسد ويفكر في روح إبنه التي في السماء حتى تلحق بها أرواحنا جميعا ، ثم أنصرفنا دون ان يرى وجهي ويلتمس وقوداً لبكائه).

 

(2) في السودان الوطن المليء بالدموع والدماء ومنذ ما قبل الإستقلال حتى تاريخ يومنا هذا مات الكثير من الخلق. صحيح ان البعض كانوا ضحايا المجاعات والأمراض الناجمة عن الحروب التي شنها العسكر على المواطنين السودانيين.  إلا ان معظم هؤلاء الضحايا قد غادروا هذه الدنيا بسبب القتل المباشر من قبل فئة نطلق عليها القوات المسلحة أو الجيش (الحكومي) السوداني.

مازالت ذاكرة الناس في السودان وجنوب السودان ترتجف لمشهد تدمير مدينة ياي بولاية الإستوائية الوسطى بمدفعية العسكر ومسحها ومن عليها من الوجود . وحمم الأنتينوف التي تحرق قرى الآمنين في دارفور ، بل مشهد مقاتلات عمر البشير التي كانت تطارد أطفال جبال النوبة لتقطيع أوصالهم الغضة حتى داخل الكهوف التي كانوا يحاولون عبثاً الإحتماء بها. إنه التاريخ القهري للشعوب السودانية على يد ابنائهم العسكر المنشغلون اليوم بتجارة الغلال والخضر واللحوم وتهريب الذهب في الوقت الذي تقبع فيه مساحات شاسعة من الأرض السودانية تحت الإحتلال المصري والأثيوبي.

 

(3) بعد نجاح ثورة ديسمبر بإقتلاع البشير ظننا أننا على بعد أمتار من الشاطيء حيث يابسة دولة المواطنة لكن الواضح اننا في الحاجة للإبحار لبعض الوقت طالما العسكر مازالوا يؤمنون بأننا اعداء محاربين ولسنا مواطنين ومدنيين.

منذ مجزرة القيادة العامة تسكن جثامين شهداء الثورة من الذين لم يحالفهم الحظ في الغوص في مياه النيل أحياء كانوا أو أمواتاً في المشارح المتهالكة ببعض مستشفيات العاصمة الخرطوم لتمثل جريمة أخرى من جرائم العسكر الإنقلابيين اللصوص القتلة.

الإبقاء على جثامين الشهداء تحت تلك الظروف ولكل هذه المدة حتى يكتمل تحللها ثم الشروع في دفنها دون تصنيفها بالوسائل العلمية المتعارف عليها هو إمعان في الظلم قبل ان تكون محاولة بائسة لطمس آثار الجريمة.

الذي غاب عن الأغبياء وأعوانهم من وكلاء النيابة ؛ أن ما يحتفظون بها مجرد أجساد، رغم أنها تعود لأشخاص أكرمنا منا جميعا إلا ان أرواحها قد صعدت الي السماء.

طال الزمن أو قصر سيأتي اليوم الذي تنبش فيه قبور الشهداء ويقدم فيه الجناة للعدالة في ظل دولة مدنية ديمقراطية.

ذلك قبل ان يقف الضحايا والجناة أمام من لا يظلم عنده أحد ، هنالك في يوم المحشر!!.

وهل يؤمن البرهان وحميدتي وعلي كرتي بالمحشر ؟؟.

 

 

 

[email protected]

‫2 تعليقات

  1. د.حامد برقو انت انسان بمعني ما تحمل الكلمه من معني بارك الله فيك.

  2. من اكبر اخطاء النخب من الوطنيين الشرفاء خاصة في مناطق الهامش تراجعها وافساحها المجال لانصاف المتعلمين والجهلاء الفاسدين امثال مناوي وجبريل واردول وترك، حتي اصبحوا الممثل الشرعي والمتحدث الرسمي باسم تلك المناطق، الواجب على العقلاء في تلك المناطق ان يخرجوا للناس ويتصدوا للعمل العام والمسؤلية الوطنية مدركين الخطر الماحق الذي يحيط بالبلاد. الرباعي الذي يمثل الخطر الاكبر على مستقبل البلاد هو الحركة الاسلامية، الادارات الاهلية، العنصرية والطايفية. يجب على الجميع تناسي الخلافات وتوحيد الجهود لمواجهة خطر الحركة الاسلامية وادواتها على حاضر ومستقبل البلاد.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..