حكاية لها ما بعدها ..!

«ذكريات كل إنسان هي أدبه الخاص» .. ألدوس هكسلي!
كانت أمي مدرسة إبتدائي، وعندما كنت في الصف الثاني تم نقلها للتدريس في مدرسة أولاد، فكان من الطبيعي ? أو المقبول ? أن انتقل معها .. وهناك كنت التلميذة الوحيدة في مدرسة كلها تلاميذ، يلبسون القمصان والشورتات، ويخرجون سيقانهم النحيلة للهواء الطلق، بينما كنت استبدل الشورت ببنطلون جينز مراعاة لمقتضيات اختلاف النوع .!
هناك في مدرسة الأولاد وقفت حائرة أمام أول امتحان في التعامل مع الجنس الآخر، فإما أبدو ? كما كنت في داخلي ? فتاة خجولة ضعيفة فأصبح مثار سخرية ومصدر تسلية، وإما أن يكون رد الهجوم بمثله هو خير وسيلة لدفاعي، وقد كان .. لم يكن ذلك شراً منِّي بقدر ما كان خوفاً ..!
في تلك المرحلة تعلمت درساً جندرياً أصيلاً مفاده أن الذكور في أية سلالة يهابون الأنثى القوية! .. وقد أسست «مدرسة الأولاد» لفعل ثوري مهم جداً في حياتي (طبيعة موقفي من الرجل، وخصوصية نظرتي لسلوكه العام، وصرامة أحكامي على مواطن ضعفه) .. وهكذا .. ظللت أتبع سياسة نابليون في معاملة جميع ذكور المدرسة ما عدا صديقي الوحيد أحمد ..!
أحمد ود فاطنة (الذي كان طفلاً ذكياً، شديد الحساسية، ضعيف البنية) هو أصغر أفراد أسرة فقيرة كانت تحرس المدرسة وتقيم بـ (قُطِّيَة) صغيرة في حوشها الكبير .. ولسبب لا أدريه كنت أشعر بعطف شديد وأمومة غامرة تجاه أحمد، بل واعتبر نفسي مسئولة عنه رغم كوننا أنداداً ندرس في ذات الفصل، إلى درجة أن أحداً من أشرار الأولاد لم يكن يجرؤ على مضايقته وهو في معيَّتي ..!
ذات نهار طويل، قائظ، كنت بانتظار أمي على باب المدرسة عندما سألني أحمد (انتوا غداكم الليلة شنو)؟! .. فقلت له ? على الفور ــ بتلقائية الأطفال التي لا تخالطها دهشة ــ (ملوخية ورز) ..!
سبب توافر الإجابة هو أن أمي كانت تطبخ أغلب طعام الأسبوع وتحفظة في الثلاجة (كان والدي مغترباً وكنا نحن صغاراً لا نفهم كثيراً في مسألة وش الملاح!) .. ثم جاء دوري، سألت أحمد ذات السؤال.. فأجابني قائلاً (نحن ما عندنا ملاح) ..!
بقيت طوال طريق عودتنا من المدرسة حزينة صامتة كالأسماك، وما أن وضعت أمي أمامنا صينية الغداء حتى انهمرت دموعي .. ظللت أبكي وأرجوها أن نأخذ حلة ملاحنا ونذهب إلى أسرة أحمد في حوش المدرسة لنتغدى معهم! .. ولأن التنفيذ كان مستحيلاً بحسابات الكبار رفضتُ أن أمس ملوخية أمي تضامناً مع حرمان أحمد ..!
ثم تطورت عاطفتي الجياشة الى تضحيات طفولية (كنت أعطيه السندوتش الخاص بي وأذهب للتطفل على فتات مائدة المدرسات بجوار أمي) ..!
إلى أن جاء أكثر أيام طفولتي حزناً وبكاء، سافر أحمد في الإجازة السنوية مع أسرته إلى بورتسودان، وظللت ألعب وحدي بانتظار عودته، لكنني لم أقابله ثانية أبداً، ولم أسمع عنه شيئاً حتى اليوم ..!
رحل صديقي الصغير إلى الأبد، وغاب في زحام الحياة بلا وداع .. لكنه بقى في ذاكرتي كما هو .. صغيراً .. رقيقاً .. ودوماً بحاجة إلى حمايتي
الراي العام
مني لقد ابكيتني ، كلامك جميل ولا تشبهين الاخرين دمت لنا ولتستمري وساستمر اقرا ما تكتبين
يا بت ابوزيد كيفك الليلة شكلوا حمتك زااايدة
انشاء الله العافية يا بت يا راقية وانشاء الله تلقي احمد
مع انو العود دائما احمد
لقد اوفيتي الإنسانية حقها وحفظتي للعهد وداً وطهراً
فشكراً لهذا المد الإنساني الجميل !!!
كانت (ريحانة) طفلة صغيرة نحيفة رقيقة، خجولة منكسرة الخاطر. كانت صديقة لابنة أختي. كانتا يخرجان سويا لفسحة الفطور. ويفترقان عند زقاق معين من أزقة القرية حيث تذهب كل واحدة إلى بيتها، ثم يلتقيان مرة أخرى في رحلة الرجوع إلى المدرسة. لاحظت أختي أن ريحانة تعود سريعاً لاصطحاب ابنتها في رحلة العودة إلى المدرسة. سألتها أختي (هل يعقل أن تكوني أفطرت في تلك الدقائق المعدودة)؟ أجابت ريحانة: لا والله أنا صائمة؟ ولماذا تصومين يا ريجانة واليوم ليس يوم اثنين أو خميس، كما أن جسمك هزيل وضعيف؟ فأجابت ريحانة: أنني كلما أعود من المدرسة إلى منزلي في حصة الفطور تقول لي أمي: معليش ابنتي اليوم ما عندنا فطور. ولما تكرر هذا الأمر قررت أن أصوم يومياً؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
والتالي أيضاً قصة واقعية من الريف السوداني:
* أحضرت إحداهن قماشاً إلى الخياطة المعروفة بالقرية لكي تخيط فستانا لابنته ذات الخمسة عشر ربيعاً. طلبت الخياطة حضور الابنة لأخذ المقاس. اعتذرت الأم صاحبة القماش بعدم قدرة ابنتها على الحضور لأنها مريضة. ردت الخياطة بقولها: إذاً أحضري لي فستان قديم لكي آخذ منه المقاس؟ ولما أسقط في يد الأم وحوصرت من كل جانب، قررت أن تقول الحقيقة المذهلة الموجعة المبكية، فقالت للخياطة: والله يا بنتي أنني تركت البنية في المنزل عارية كما ولدتها أمها، لأنها لا تملك إلا فستانا واحداً هو هذا الفستان المتهرئ الذي أحضرته لك الآن؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
* أرجو أن يكون لما بعد الحكاية صومك الدائم تضامناً مع أحمد صديق طفولتك، ومع ملايين الرياحين (ريحانة) في ريفنا الحبيب الذين طحنتهم السنوات العجاف طحناً وبرت عظامهم برياً ولم يزالوا صامدين صامتين ويحلمون بزوال أعوام الرمادة تلك التي امتدت وتطاولت عليهم أيامها التي يساوي يومها لبطونهم الطاوية دهرا كاملاً. وأن تتولين قضية الأطفال المشردين والمعدمين والحفاة والعراة.
* أسكتي يا شجون وأسكني يا جراح/ مات عصر النواح وزمان الجنون
وأطل الصباح من وراء القرون/ فاسكتي يا جراح واسكني يا شجون
سوف يأتي الربيع وتمر الفصول/ سوف يأتي الربيع أن تقضى ربيع
الوداع الوداع يا جبال الهموم يا هضاب الأسى/ قد جرى زورقي في الخضم العظيم
فنشرت القلاع فالوداع الوداع/ الوداع الوداع
مقال رائع ومؤثر جداً جداً تفصح عن روعته عيون قارئه
على ما أظن و(إن لم تخني الذاكرة )أن القصة أعلاه مقتبسة من رواية مشهورة جداً (الحب في زمن الكوليرا)وهذا لايقلل من إعجابي الشديد بالكاتبة
أختى منى ، مقال رائع يضج بالعاطفة الجياشة ، أنت كاتبة رائعة تخيلت الشخوص أمامي وانا اطالع المقال..
لقد كان مثل أحمد المقصوص عنه في ذلك الزمن قلة لا تتجاوز أصابع اليد وهنا لا أريد يا ستي أن أجعلك (حبوبة) إذا إفترضنا إنك في الـ 30 من عُمرك فكيف تحكُمين بين حال أحمد مُني وأحمد المُتعافي،أبوقِردة،مامون حِميدة،وغيرهم من الذين أهملوا أحمد وجوعوه وجهلوه وشردوه وتكالبوا ليقتسموا حقه في التعليم والصحة والحياة الكريمة،
فكم أحمد ترك المدرسة وكم أحمد بسبب عدم حق الفطور وحق الكُتب وحق اللِبس و و و و إلي أن تفوق هذه الواوات واوات الفاتح جبرة وتظل كسرة ثابتة أين حق أحمد؟ لله دركم يا أحمد ويا مريم ويا كل طفلٍ في بلد الخير والمليون ميل مربع (قبل الإنفصال)
دائمارائعة ومتألقة وانسانة نبيلة ربنا يحفظك