مقالات وآراء

في انتظار الفجر السوداني… حكاية الدم والصمت والأمل

م. معاوية ماجد

من دولة الفرص المهدورة إلى البحث عن خلاصٍ مدنيٍّ يعيد للوطن روحه

في هذا الركن الحزين من القارة، حيث يلتقي النيلان ليكتبا للحياة معنى الوجود، يقف السودان اليوم على حافة التاريخ مثقلاً بجراحه التي لم تلتئم منذ عقود. بلادٌ كان يمكن أن تكون منارةً في القارة، وهبها الله ما يجعلها سلة غذاء العالم، فإذا بها تصير ساحةً لدمٍ لا ينتهي، ولأحلامٍ تُذبح كل فجرٍ على مذبح الطمع والسلطة. لقد جعلتها الأنظمة المتعاقبة ميدانًا لتجارب الشعارات، مرة باسم الدين، ومرة باسم الوطن، وفي كل مرة كان الوطن هو الخاسر الأكبر، والإنسان السوداني هو الضحية التي تُقدَّم قربانًا على مذبح الصمت.

منذ أكثر من ثلاثين عامًا، حين رفع النظام البائد رايات الإسلام، لم يورث البلاد سوى الاستبداد والفقر والفساد. نُهبت ثروات النفط والمعادن، وذُبحت الزراعة، وتحوّل التعليم إلى ظلٍّ باهتٍ لزمنٍ مضى. غابت الدولة، وحلّت محلها دولة الحزب، ثم القبيلة، ثم السلاح. وبدل أن تكون الخرطوم قلبًا نابضًا للوعي الإفريقي، غدت جرحًا مفتوحًا في خاصرة القارة. وعندما جاءت ثورة ديسمبر، وخرج الناس يهتفون «حرية، سلام، وعدالة»، تخيّلوا أنهم أخيرًا لامسوا فجرهم المنتظر، لكنّ الفجر انكسر حين امتدت أيدي العسكر مرة أخرى، فأُطفئت شموع الأمل، وسُرق الحلم الوليد تحت ظلال البنادق.

هكذا وجد السودان نفسه من جديد في قلب الدائرة الخبيثة: انقلابٌ يولد من رماد انقلاب، ودمٌ يستدعي دمًا، وثورةٌ تُجهض قبل أن تثمر. فالحروب في هذا الوطن لا تبدأ حين تُطلق النار، بل حين يُخنق الوعي، حين يُقصى المواطن، حين يتحول الجيش من حامٍ للدولة إلى شريكٍ في اقتسامها. إنّ المأساة السودانية ليست نزاعًا بين قائدين، بل هي انهيارٌ بطيءٌ لفكرة الوطن نفسها، حين يصبح الولاء للأشخاص لا للمبادئ، وللقبيلة لا للعلم، وللبندقية لا للعقل.

وها نحن اليوم نعيش حربًا مدمّرةً بين الجيش وقوات الدعم السريع، حربًا لم يبقَ فيها منتصرٌ سوى الموت. احترقت الخرطوم، وتبعثرت دارفور كحكايةٍ من رماد، وتهجّر الملايين نحو المنافي القاسية. أمّهاتٌ يبحثن عن أبنائهن في المخيمات، وآباءٌ يبيعون ما تبقّى من ذاكرتهم ليعبروا الحدود، وأطفالٌ يولدون في العراء لا يعرفون معنى البيت. كل حجرٍ في السودان صار شاهدًا على مأساة، وكل غصنٍ يابسٍ في النيل يعرف كم بكت هذه الأرض. وحتى المجتمع الدولي بدا كمن يشاهد فيلمًا طويلًا من البؤس دون أن يمدّ يده لوقف المشهد، مكتفيًا بعباراتٍ باردةٍ عن «وقفٍ لإطلاق النار» و«مساعداتٍ إنسانية».

وأمريكا، التي تقود العالم اليوم، ومن خلفها الدولة العميقة التي تحرّك مفاصل القرار، قادرتان على وقف هذه الحرب بين يومٍ وليلة، لو شاءتا. أكثر من نصف قرنٍ من الإرهاق والدمع والحياة البائسة للمواطنين على أرضٍ تمتلك كل مقومات الثراء والكرامة، كفيلٌ بأن يوقظ الضمير الإنساني. نتمنى أن ينظر العالم بعين الإنسانية لهذه المأساة، وأن يخطو بصدقٍ نحو الضغط الجاد على الأطراف المتنازعة، وإيقاف امتداد الدولة التي تتسلل لاستلاب موارد السودان وثرواته. إن القوى الكبرى قادرة على فرض السلام كما تفرض الحروب، والأسباب متوافرة لضمان مصالحها في مأمنٍ لا يحرسه السلاح، بل يصونه استقرار دولةٍ واعدةٍ حين تُنصف وتُدعم لتنهض.

وفي خضمّ هذا الليل الثقيل، تلوح مبادراتٌ دبلوماسية تحاول أن تردَّ للسودان أنفاسه المقطوعة. فاجتماع الآلية الرباعية — التي تضم مصر والسعودية والإمارات والولايات المتحدة — المقرر عقده هذا الشهر في واشنطن، يأتي كبصيص ضوءٍ صغيرٍ في آخر النفق. وكذلك اللقاء المرتقب بين الفريق أول عبد الفتاح البرهان والدكتور عبد الله حمدوك، الذي ربما يشكّل نافذةً نادرةً للحوار الوطني الجاد، إن صدقت النوايا وتقدّم الوطن على الحسابات. فالعالم بدأ يدرك أن استمرار الحرب في السودان لن يحرق حدوده فقط، بل سيحرق توازن الإقليم بأسره. غير أن نجاح هذه التحركات لن يتحقق إلا إذا اتفقت القوى الإقليمية والدولية على أن مصلحة السودان العليا هي الهم الأوحد، وأن موارده لا ينبغي أن تكون غنيمةً لأحد، بل حقًا لأهله أولًا، ثم شراكةً ذكيةً منصفةً تعود بالنفع على الجميع داخل إطار دولةٍ مدنيةٍ عادلةٍ تحكمها المؤسسات لا البنادق.

إنّ استقرار السودان ليس قضيةً سودانيةً محضة، بل هو حجر الأساس لاستقرار المنطقة كلها. لذلك فإن المطلوب ليس فقط وقف النار، بل وقف العقلية التي تنتج النار، ولا يكفي التفاوض على «هدنةٍ» بل على «مستقبل». الحلول ليست سهلة، لكنها ممكنة حين يتحول الصدق إلى فعل. فوقف نزيف الدم لا يحتاج إلى بياناتٍ منمقة، بل إلى إرادةٍ وطنيةٍ جريئةٍ تضع حياة الناس فوق كراسي الحكم. إن أول الطريق يبدأ بتجريد السلاح من صفة القداسة، وقطع الشريان الذي يربط المال بالبندقية، فحين يُفصل الاقتصاد عن السلاح تعود الدولة إلى شعبها. على السودان أن يوحّد جيوشه المتعددة في جيشٍ قوميٍّ واحدٍ يخضع للدستور لا للولاء، لأن وطنًا واحدًا لا يحتمل جيشين. ثم يجب أن يُكتب عقدٌ مدنيٌّ جديد، ليس بالبنود السياسية وحدها، بل بروحٍ أخلاقيةٍ تعيد الثقة بين المكونات التي أنهكتها الخيانات والانقسامات. عقدٌ يُبنى على المواطنة، وعلى مبدأ العدالة التي لا تسقط بالتقادم، فالعدالة ليست انتقامًا، بل تطهيرٌ للذاكرة الوطنية من الغبن والكراهية. ومن دون إصلاحٍ جذريٍّ في التعليم والإعلام، لن تنجح أي ثورةٍ أو اتفاق. فالعقل هو ميدان المعركة الحقيقية، والمناهج التي تنشئ طفلًا حرًّا، هي التي تصنع وطنًا لا يعبد الطغاة. وأخيرًا، لا سلام بلا إنصافٍ للضحايا، ولا استقرار بلا مساءلةٍ لمن سرقوا أعمار الناس. العدالة الانتقالية ليست ترفًا قانونيًا، بل هي طوق نجاةٍ يحول دون تكرار الكارثة.

ومع كل هذا الظلام، يبقى في الأفق فجرٌ ينتظر الولادة. فالإرادة حين تتوحد، تُبدع المعجزات. السودان، رغم ما ينوء به من ألم، لم يفقد بعدُ قدرته على النهوض. إذا اجتمعت النفوس على الولاء الوطني الصادق، ونُبذت التفرقة، وغُسل الغبن والحسد بماء الإنسانية، سيولد فجرٌ جديدٌ من رحم هذا الليل الطويل. حين يمدّ السوداني يده لأخيه قبل أن يمدّها للغريب، وحين تُعاد صياغة العلاقة بين القبيلة والوطن، وبين الدين والعدل، ستستعيد الأرضُ عافيتها، وستعود النخلة لتحرس البيت بدلًا من البندقية.

لقد تعب السودان من الوجع، لكنه لم يمت. ما زال في صدره نيلٌ يجري، وفي ذاكرته ضوءٌ يصرّ على البقاء. سيأتي اليوم الذي تخرج فيه الأمهات من خيام النزوح ويمشي الأطفال إلى مدارسهم بلا خوف، حين يدرك الجميع أن المدنية ليست شعارًا يُرفع، بل خلاصٌ يُعاش، وأن الكرامة لا تُمنح بل تُنتزع. عندها فقط سيكتب التاريخ بمدادٍ من نورٍ ودمعٍ وكرامة كلماته
:ها أنا ذا… عدت من الدم إلى الحلم، ومن الصمت إلى الغناء، ومن الموت إلى الحياة، فافتحوا للنيل صدره، ودعوا الفجر يدخل من جديد.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..