مقالات سياسية

الازرقيون يتحدثون (3)

أمير شاهين

التاريخ منجم زاخر بالحكمة التي قد تجد فيها المفاتيح الذهبية لمشاكل حاضرنا
هنرى كيسينجر وزير الخارجية الامريكية الاسبق
نواصل فى هذه الحلقة سلسلة المقالات عن ” الازرقيون يتحدثون” والازرقيون كما سبق و ان ذكرنا هم من يحملون افكار العم ” ازرق” ذلك الجزار السودانى البسيط الذى كان يعمل فى سوق الشجرة فى ام درمان والذى كان فى العام 1955 يعارض خروج الانجليز من السودان وقتها وتاجيل خروجهم وكان يرى ان السودانيين غير مؤهلين بعد لحكم بلادهم و تلزمهم 20 عاما اخرى لتعلم ذلك , وبحساب الزمن فان العم ازرق كان يرى ان خروج الانجليز يجب ان يكون فى اواسط السبعينيات من القرن الماضى بدلا من اواسط الخمسينيات , وقد تعرض الرجل وقتها الى السخرية و الاهانة لا سيما بعد حصوله على 40 صوتا فقط فى الانتخابات التى خاضها ضد خصمه اسماعيل الازهرى المنادى بالاستقلال والذى تحصل على قرابة ال20 الف صوت فقد كانت البلاد جميعها مشحونة و مؤيدة لخروج الانجليز بدون تاخير وكان العم ازرق فى وضع كالذى يسبح عكس التيار . وكانت الفكرة التى يؤمن بها ان ابناء السودان فى طباعهم النفور وعدم التعاون والعمل المشترك مع من بنى جلدتهم ويخلطون بين المصالح و العلاقات الشخصية و ومصالح الوطن العليا ! وهى نفس الافكار التى لا زال البعض يؤمن بها وهى ان العيب الرئيس فينا وليس فى سوانا وذلك تاكيدا لقول الامام الشافعي:

نعيب زماننا و العيب فينا وما لزماننا عيب سوانا

ويقول صديقى الازرقى ” انظر الى حال السودان كيف تركه الانجليز فى العام 1956 و حاله الان فى العام 2020 ستجد ان المقارنة معدومة اذ ان الانجليز وبدون مغالطة من احد و بلغة الارقام قد تركوا وراءهم بلد كان ملء السمع و البصر يفتخر به ابناءه و يرغب فى الهجرة والاستقرار فيه بعض ابناء الشعوب الفقيرة المجاورة , والان صار العكس تماما حيث ان ابناء السودان صاروا مشتتين فى جميع انحاء المعمورة طلبا للرزق و البحث عن تحسين اوضاعهم المادية فى وطنهم الذى كان من المفترض ان يكون سلة غذاء العالم و احد الدول الثلاث التى تجذب الناس للعمل فيها وهى كندا و استراليا والان اذا القينا نظرة على المجتمع السودانى المعاصر فسنجد ان الاغتراب و الهجرة قد شملت كل العائلات السودانية بحيث يكاد لا يخلو بيت من مغترب او مغتربة !

قال لى صديقى الثمانينى والذى توفى الى رحمة الله قبل عامين وكان معاصرا لفترة من حكم الانجليز حيث ن كان وقتها يعمل فى مصلحة المخازن و المهمات فى بحرى بان ابناء السودان قد عاشوا فترة من الرخاء وطيب العيش والهدوء فى زمن الانجليز لم يالفوه من قبل حيث تميزت العلاقة بينهما بالود و الصداقة و الاحترام المتبادل ولم تكن العلاقة بينهما على الاطلاق كتلك التى تكون بين المستعمر و المستعمرين ( بفتح الميم) لقد سمعنا عن فظائع الاستعمار الفرنسى و الايطالى و البلجيكى للشعوب التى يستعمرونها ولكن للحقيقة و التاريخ لم نرى من البريطانيين الا كل خير !! وماقاله و افاد به هذا الصديق الراحل يكاد يجمع عليه كل من عاصر تلك الفترة من تاريخ السودان وربما يعود ذلك الى معرفة الانجليز وهم اساتذة الادارة و السياسة بان السودانى على المستوى الشخصى انسان كريم النفس شجاع و مقدام معتز بنفسه لا يقبل الذل او الضيم وهو على اهبة الاستعداد للتضحية بحياته من اجل شرفه و كرامته وهو فى ذلك يتميز عن كثير من الشعوب التى حكمها الانجليز ! ولكى نفهم الامر بالصورة الصحيحة فلابد من العودة الى ما كتبه بعض الكتاب البريطانيين عن السودان , فمثلا الكاتب روبن نيلاند 1935-2006 فى كتابه ” حروب المهدية” يتحدث عن السودان و السودانيين فى الفترة 1880-1898 فيقول:

” السودان بلد شاسع مترامي الأطراف طبيعته جرداء يعتبر أكبر بلد في افريقيا مساحته حوالي مليون ميل مربع وهي تعادل مساحة أوربا الغربيه شماله صحراء جرداء صخريه وجنوبه مستنقعات وشجيرات جافه وأشجار سنط شوكيه. ..احسن حاجه في السودان هي نهر النيل الذي يقسم البلد نصفين ممتدا من الحدود البوغنديه إلي وادي حلفا علي الحدود المصريه وهو المعلم البارز والأهم في السودان المدن الرئيسيه تقع علي مقر به من النيل والبلاد كلها موبوءة بكميات ضخمه من البعوض والذباب وما تسببه هذه الحشرات من ملاريا وأمراض ….السودان بلد بالغ الصعوبه والقسوة بكل المقاييس …لكن هناك جاذبيه طبيعه نلمسها في هدوء وسكون البراري الشاسعة وكل الاوربيون الذين عملوا في السودان او سافروا عبره يثنون بشده علي طيبة وكرم أهل السودان إلي جانب ذلك فإن السوداني يمتاز بصفة الإخلاص بطبعه وهو مسلم صادق والثانيه انه محارب مقاتل بالفطرة”.

وفى معركة كررى التى وقعت احداثها فى صبيحة 2 سبتمبر 1898م ( مرت علينا قبل ايام ذكرى 122 عام على وقوعها) بين قوات المهدية السودانية والقوات البريطانية مع مساندة قوات مصرية في كرري شمال أم درمان عاصمة الدولة المهدية وكان قوام القوات المهدية 60 ألف جندي وتعداد الجيش الإنجليزي المصري حوالي 6 آلاف جندي مسلحين بالمدافع الرشاشة بالمدافع الأوتوماتكية الحديثة تدعمهم البواخر الحربية. بدأت المعركة في الساعة السادسة صباحا حيث بدات المعركة عندما شن السودانيون هجوما سريعا من جميع الاتجاهات على القوات الغازية ولكن كثافة النيران من مدافع المكسيم التى كان يطلقها الجيش الغازى لم تمكن السودانيين من احداث الفرق و كسب المعركة. في تمام الساعة الثامنة صباحا أي بعد ساعتين من بداية المعركة أمر كتشنر القائد العام للجيوش البريطانية والمصرية الغازية بوقف إطلاق النار بعد سقوط أكثر من 18 ألف قتيل من السودانيين إضافة إلى أكثر من 30 الف جريح. وانتهت المعركة بانسحاب الأنصار إلى غرب السودان ودخول كتشنر أم درمان عاصمة الدولة المهدية . وبالرغم من الهزيمة العسكرية فقد ابدى السودانيون بطولة نادرة و شجاعة منقطعة النظير و استهانة بالموت و عدم الخوف منه بصورة لافتة حتى ان ونستون تشرشل الذى كان مرافقا للجيش البريطانى المصرى حيث كان يعمل وقتها كمراسل حربى قال قولته الشهيرة :

كانوا أشجع من مشى على سطح الارض. لم نهزمهم ، ولكن قتلناهم بقوة السلاح والنار ”
“كلما تتساقط جثث قتلاهم كانوا يجّمعون صفوفهم ويتقدمون للامام بشجاعة فائقة” ”

وفى ام دبيكرات التى لجا اليها الخليفة عبدالله التعايشى بعد الهزيمة فى معركة كررىلالتقاط الانفاس تنظيم الصفوف و معاودة القتال مرة اخرى وقعت اخر معارك الثورة المهدية فى يوم الجمعة 24 نوفمبر 1899 اى بعد شهرين من معركة كررى , وفى هذه المعركة التى استشهد فيها الخليفة عبدالله التعايشى بشجاعة لقيت الاشادة من الجميع وحتى اعدائه حيث انه عندما ادرك خسارته للمعركة رفض الانسحاب او الهرب و فرش فروته وبقى فيها حتى استشهد ويقال ان القائد البريطانى ونجت باشا قد ادى التحية العسكرية على جثمان الخليفة معللا ذلك بان الخليفة كان بطلا وخصما قويا يعمل له الف حساب , وهكذا هم البريطانيون يمجدون البطولة و يعجبون بالشجاعة حتى لو اتت من قبل اعدائهم ! ولعل افضل وصف لاستشهاد الخليفة ما ذكره الضابط البريطانى جورج فرانك الذى شهد تلك المعركة فى خطاب لابن عمه في بريطانيا يصف فيه استشهاد الخليفة عبدالله وأمراءالمهدية في ام دبيكرات :

“و عندما احس الخليفة بدنو اجله .. نادي علي أمرائه و كبار رجاله .. ورفض الاستسلام كعادته .. افترشوا الفروة جميعاً وجلسوا عليها كجلوس المسلمين للصلاة .. وانتظروا مصيرهم بشجاعة فائقة ”

وبعد ام دبيكرات صار السودان رسميا تحت ما يسمى بالحكم الثنائى البؤيطانى المصرى , ويبدو ان البريطانيون قد ازداد اعجابهم بالسودانيين فقد راوا انه قد حان الاوان لتضميد جراح الماضى لينعم السودانيون بالعيش الكريم بعيدا عن المشاكل و الاضطرابات التى عانوا منها طويلا و ادت الى تخلف بلادهم عن ركب الحضارة و المدنية الحديثة فاضمروا فى انفسهم العمل على تمكين السودانيين من الاستقلال ببلادهم عن مصر والتى كانت لديها مطامع و ترى بانها لديها حقوق تاريخية فيه ,وكان السبيل الى ذلك هو فى نهضة البلاد و نشر التعليم والحاق السودانيين بقطار الحضارة الذى سبقهم ! ومن اجل الوصول الى هذه الاهداف فكان فى البداية لابد من طمأنة النفوس و تهدئة الخواطر وزرع الثقة بين البريطانيين و السودانيين وفى هذا الصدد تتجلى حكمة البريطانيين و براعتهم فى الادارة وحسن تدبيرهم للامور , فها هو كتشنر الحاكم العام يعتمد نظاما لا مركزيا للحكم ويعاونه عدد 3 سكرتيرين إداري و ينوب عن الحاكم العام، قضائي و مالي و مدير للمعارف (التعليم). و قسم السودان إلى ست مديريات: دنقلا، بربر، كسلا، سنار فشودة و الخرطوم. و عين ضابط إنجليزي على رأس كل مديرية. وقد احتفظ الإنجليز بالوظائف العليا في الحكومة حتى مستوى مفتشي المراكز و خصصت الوظائف الأدنى للمصريين من مستوى المآمير. في 1899 أصدر كتشنر الخطوط العامة لإدارة السودان.

• بإزالة حكم المهديين تتاح لنا الفرصة لإقامة نظام إداري متوافق مع متطلبات السودان.
• القوانين و اللوائح الضرورية للحكم ستصدر تباعا حسب الحوجة ولكن الهدف ليس تدبيج القوانين و الأطر بقدر ما هو الحكم الرشيد للبلاد
• يجب إرساء الأطر القانونية تدريجيا و التأكد من الالتزام التام بها في جميع أنحاء البلاد والتزام العدل مع الابتعاد عن كل ما يمكن أخذه كدلالة على ضعف الحكومة
• مهمتنا الأولى هي كسب ثقة المواطنين و تنمية ثرواتهم و الارتقاء بهم:
• على الموظفين التنفيذيين الإتصال بالطبقة النافذة من المواطنين و من خلالهم يمكننا التأثير على كل الشعب.
• على مدراء المديريات و المفتشين الاحتفاظ بصلات مباشرة مع الشخصيات المؤثرة في مناطقهم و كسب ثقتهم و الاهتمام بمصالحهم الشخصية و رفاههم.

• على الموظفين الاهتمام بتقدم البلاد و إثراء المتصلين بهم من المواطنين و يجب أن تدلل تصرفاتهم الشخصية على ذلك
• يجب أن يعلم المواطنون أننا نتوقع منهم الصراحة و الصدق لا الكذب و التملق
• يجب مراعاة المشاعر الدينية و احترام الإسلام
• يعاد بناء المساجد في كل مدن البلاد ولا يسمح ببناء القباب أو الزوايا أو التكايا والمساجد الصغيرة منعا لإستخدامها في نشر التعصب و تعالج طلبات بنائها على المستوى المركزي.

• الرق غير معترف به، إلا أننا لن نتدخل ما دام الأرقاء يؤدون خدماتهم طوعا لسادتهم . و سنتدخل بحزم عند إساءة معاملة الأرقاء من قبل السادة.
وتماشيا مع توجيهات كتشنر , فقد شهدت مدينة دنقلا التى كانت مديرية فى وقت الغزو قيام اول ادارة مدنية بريطانية فى السودان حيث قام المستر هنتر بانشاء أحد عشرة وحدة إدارية و عين مأموراً على رأس كل منها يعاونه ضابط شرطة و ستة عشر شرطيا منهم أربعة راكبون. ولكى نعرف حنكة البريطانيين و تفوقهم على غيرهم من الاوربيين فى الادارة , فعلينا ان نقرا التوجيهات و الارشادات التى ارسلها هنتر الى الموظفين المكلفين بادارة المديرية وهى:
• إن وظيفتك الجديدة هي وظيفة هامة و مسئولة.

• تذكر أنك تمثل حكومة عادلة و رحيمة فعليك ان تكون مثالاً للعدل يسعى إليه المواطنون لرفع الظلم عنهم
• يجب أن تعمل بكل ما في وسعك لتكسب ثقة واحترام المواطنين
• تذكر أن المواطنين قد تخلصوا حديثا من اضطهاد نظام طاغ وظالم أصل فيهم شعور الخوف. و عليه يجب أن تشعر الأهالي ببزوغ عهد جديد من العدل و المعاملة الكريمة و في نفس الوقت يجب أن تتعامل مع الجرائم و المجرمين بحزم وقوة يجعلها من ذكريات أيام المهديين.

• سيحاول الأهالي رشوتك! يجب أن ترد الرشى بصورة حاسمة و قطعية. و أن يفهم الأهالي أن الرشى لن تجلب عليهم سوى العقوبات. لا يجب أن يؤخذ أي شيء من الأهالي دون دفع مقابله.
• إذا ثبت أنك أو أي من موظفيك قد أخذ أي “بقشيش” من المواطنين (هكذا وردت في النص الإنجليزي) فسوف يتم فصلك و تقديمك لمحاكمة عسكرية
• عليك أن تشجع التوسع في الزراعة في منطقتك
• عليك أن تحارب إساءة معاملة النساء.

• يمكنك معاقبة المستحقين بما لا يتجاوز يوما واحدا في الحبس. لعقوبات أكبر يجب عليك إحالة الأمر لأقرب سلطة عسكرية
• يمكنك رفع أي إشكال لأقرب قائد عسكري لمنطقتك و يجب عليك العمل بتوجيهاته
ونواصل باذن الله فى الحلقة القادمة

أمير شاهين
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..