الفاشر بين السقوط والتسوية.. وطن يُباع على موائد الميليشيات لأجل عيون قوي الهيمنة

منذ الأمس، تتناقل الأخبار أنباء سقوط مدينة الفاشر في أيدي الجنجويد، وقد رافق ذلك سيل من التصريحات الغريبة من بعض قادة “تأسيس”، الذين تحدثوا عن الكفاح العادل وبزوغ فجر دولة العدالة والمواطنة المتساوية، في مشهد لا يخلو من السخرية المؤلمة. إن وصف الحدث بـ“سقوط الفاشر” ليس مجازًا لغويًا، فالفاشر سقطت فعلاً في براثن جماعة لا يجمعها مشروع وطني ولا رؤية سياسية، بل هي توليفة من ميليشيات مغامِرة بلا مشروع، وسياسيين طامحين بلا مؤهلات. وهكذا أصبحت المدينة كما المستجير من الرمضاء بالنار. للأسف، سنشهد في الفاشر ما شهدناه في الخرطوم والجزيرة وسنجة من انتهاكات مروعة، وهي مأساة تستدعي منا جميعًا وقفةً صلبة دفاعًا عن المدنيين وحقهم في الحياة بكرامة.
ومع ذلك، فإن سقوط الفاشر لا يمكن قراءته عسكريًا فحسب؛ فهي، رغم صمودها البطولي، كانت في حكم الساقطة منذ فترة طويلة نتيجة الحصار الخانق الذي فرضته عليها الميليشيا لأشهر. لكن ما يلفت الانتباه هو توقيت السقوط، الذي يبدو أنه يصب في اتجاه رفع أسهم ميليشيا الجنجويد وخفض أسهم بقية الميليشيات الدارفورية وميليشيا مالك عقار في بورصة التسوية السياسية المزمعة.
كما يمكن أيضًا قراءة الحدث في إطار محاولات إقناع قيادة الجيش بالتفاوض مع دولة الإمارات حول نصيبها من الموارد، خاصة في ظل الطلبات المتكررة من قادة السلطة في بورتسودان للمجتمع الدولي بالتدخل لوقف الدعم الإماراتي للجنجويد. المؤسف حقًا أن يواصل قادة العمل السياسي والعسكري في بلادنا التضحية بأرواح عشرات الآلاف من أبناء وطنهم، قربانًا لتسوية سياسية يعلم الجميع أنها كانت ممكنة بكلفة أقل وشروط أفضل لو تحلّوا بشيء من الأخلاق والمسؤولية والاحترام لشعبهم ووطنهم. إن ما تحتاجه بلادنا اليوم ليس تسويات تُصاغ فوق جثث الأبرياء، بل صحوة ضمير وقيادة وطنية تضع الإنسان قبل السلطة، والوطن قبل المصالح.



