أغرب زيارة في العالم

أيقظه طرق.
“مَن هناك”؟!
وأرخى أذنيه.
حسب حامد قبلها، ربما لشدة وقع الضربات أن الطارقَ لا “البوليس”، بل الحاج إبراهيم العربي، إلى أن تناهى ثانية ذلك الصوت المصاحب للطرق، من وراء الباب، قائلا:
“أنا معاوية الكامل، يا رفيق. هيا. قم. افتح الباب”.
ثم ترنح تاليا في أثناء مشيته، باتجاه الباب المغلق.
أعشاه نور ما بعد الظهيرة الصيفيّ الأبيض الكثيف الحارق المتدفق، مثل إبر خياط صينيّة صغيرة مندفعة في تتابعها، عبر مدخل البناية ذي البوابة ذات القضبان الحديد المشرعة ليلا نهارا، حتى فاته إجمالا، وربما لدقائق أخرى ممتدة، ملاحظة أن معاوية الكامل، قد حلق ذقنه وهذّب شاربيه، وقد أبر بقسمه ذاك، كما لو أن النظام الديكتاتوري سقط في الخرطوم، وتمت خلال السويعات الماضية حتى وهو لا يدري تصفية حسابات الثأر العالقة، منذ نحو العقد، هو عمر بقاء طغمة العسكر الأخير، على سدة السلطة هناك.
“سلامات، يا زول”.
كان في صحبة معاوية رجل طويل القامة، في نحو الخمسين من عمره، أنيق الثياب، سمرته لامعة رطبة، حاد النظرات، صوته جهوري، على إصبع يده اليسرى لا دبلة الزواج الفضيّة، بل خاتم من الياقوت البورمي الأحمر، الذي ظلّ يتّقد، في عتمة الغرفة، بنور ذاته، وقد خيل لحامد لوهلة إذا حدث ومسح الرجل على الخاتم أن الجنّ سيمثل حالا بين يديه، فطاف بذهن حامد المقيد لا يزال بكسل ما بعد النوم مرأى دجاجة حسنة الشواء كأمنية. إلا أن حامد لم يرَ يقينا ذلك الرجل من قبل، وإن بدا من النظرة الأولى أن كيان الرجل يهيمن بصورة ما على كل ما يقع في محيطه. كذلك ابتدرا، معاوية والضيف، صاحب الشقة، بتحية، قائلين معا:
“سلامات، يا زول”.
تقالاها، بالضبط، في وقت واحد، بالنغمة نفسها المترعة بطيبة أصول ما منقرضة، تماما كما لو أنهما يؤديان جملة غنائية، بتزامن دقيق، ضمن كورس شديد التوافق يقف على أهبة الاستعداد خلف مطرب “شعبي”. كانت الطريقة تلك في قول التحية على ما بدا، وحتى نهاية الزيارة، بمثابة وجه الشبه الوحيد، الذي صدر، كدلالة تقارب، على رابطة الدم الوثقى، ما بين معاوية الكامل ومَن قد جاء زائرا، في صحبته، لأجلِ هدف ظاهر واحد، بل أوحد وحيد، تمّ الإعلان عنه، خلال الزيارة، بمثل الحدة، وذلك الوضوح الجارح المشلّ:
قلب حياة حامد عثمان حامد الخانعة الرتيبة رأسا على عقب.
كان حامد أوصد الباب، وهمّ بالترحيب بهما مجددا، لما أدهشه أن الضيف، الذي أقبل في صحبة معاوية، بدا يتصرف، ولم يمضِ على حضوره غير ثوان، كما لو أنه ظلّ يعرف حامد، حتى منذ ما قبل بدء الخليقة، إلى الدرجة التي أشار فيها لحامد، صاحب الشقة نفسه!، بالجلوس على الكنبة إلى جانب قريبه معاوية، بينما استلقى هو، في مواجهتهما، على سرير حامد عثمان، حيث أخذ يدور برأسه متفقدا محتويات الغرفة، قبل أن يستقر بنظراته الفاحصة مجددا على وجه حامد الغارق لا يزال في الذهول والحيرة والبقايا الأخيرة المحتضرة للنوم، بوقاحة وبرود شالّ، من دون حتى أن يخلع عنه حذاءه الجلدي الأسود المصقول اللامع.
بتلك النبرة الواثقة الخفيضة المتزنة المدركة والقاطعة لقاض سيتوقف عليه الأرجح قرار بقائك بعد ثوان حيّا أو ميتا، توجه الضيف بالسؤال إلى صاحب “البيت”، قائلا:
“وهل قرأت أنت كل هذه الكتب، يا حامد عثمان”؟!
لحظة أن بدأ حامد في تفقد أكوام الكتب المتناثرة والمتراصّة في آن هنا وهناك، كما لو أنّه يراها بدوره لأول مرة، تناهى صوت الرفيق معاوية، كما لو أنّه قارب إنقاذ به خرق لا يني يتسع في الوسط، قائلا: “عذرا، يا رفيق حامد، هذا ابن عمي، بهاء عثمان، رجل أعمال، يحمل الجنسية الأمريكية، وكما ترى يقتحم الناس عادة، كقطار الشرق السريع، إلا أن له مقدرة ساحرة، على تغيير الناس والأشياء، كما سترى، بنفسك، الآن”. وضحك معاوية. لا كما يضحك عادة. وقد بدا التشنج واضحا جليّا على ضحكته المغتصبة القصيرة. وهو ما زاد من حيرة حامد أكثر فأكثر، خاصّة بعد أن اتضح له أخيرا أن ما تراءى له في وقت سابق واكب فتح الباب غريبا وغامضا، على وجه معاوية الكامل الأليف ذاك، والنظام لم يسقط بعد، ليس في الواقع سوى:
حلاقة الذقن تلك وتشذيب الشوارب!
لم يبدُ على وجه بهاء عثمان هذا أي تأثّر بتلك الطريقة الاحتفالية المبالغ فيها، التي قدمه بواسطتها قريبه معاوية. بل أطلق لدهشة حامد ضحكة صافية رنّانة مشبعة ببهجة ذاتية متجذرة لرجل بدا منذ النظرة الأولى كما لو أن الأسى لم يطرق باب روحه قطّ.. ضحكة بدت إن شئت أنت بهيّة متلألئة مفعمة بالحياة، وقد ظلّت ماثلة هناك، عالقة وباقية، حتى بعد توقفها، في فراغ الغرفة المشحون بالعتمة والصمت والذهول والقلق ولا بد. ضحكة بدت كذلك لحامد نفسه مثل أثر خالد باق صدر هكذا، عن كائن زائل في الأخير وفان.
إلا أن قدرة بهاء العالية، على الارباك، لم تبلغ ذروتها القصوى بعد، إذ لطم وجه حامد، وهو يتجه بكلياته إليه هذه المرة، بعبارة لا تدري أصدرت عن مجنون أم “ماذا”، قائلا:
“لا بد أنّك منهك الآن من ممارسة العادة السريّة، يا حامد”؟
أخذ ينحدر هناك، باردا لزجا، على طول ظهر حامد، خيطٌ رفيع، من عرق. أما أطراف جسم حامد، فقد جمدت مجتمعة. أكثر ما أحزن حامد لحظتها أنّ بهاء عثمان هذا، عندما ألقى بسؤاله ذاك، بدا متيقنا تماما من ردود أفعال صاحب الشقة السالبة.. صاحب الشقة، الذي لم يستطع “للأسف الشديد”، مع تعاقب محاولات الاستفزاز تاليا، حتى تحريك رأسه والالتفات من ثم كي يرى كيف يبدو رد فعل معاوية الكامل، ومدى تورطه في لُعبة ما. وكان حامد لا يزال يعالج آثار الحرج المتزايد في نفسه، حين عاجله بهاء، باندفاعة شيطانية أخرى، قائلا: “ثم ما رأيك في العمل بوظيفة مساعد باحث، بقسم العلوم السياسية، في الجامعة الأمريكية، يا حامد”؟
تبادر إلى ذهن حامد لوهلة، وقد أفاق نوعا ما من حالة التجمد، تلك التي أخذت تغزوه مع هجمات بهاء عثمان الثلجية المتعاقبة؛ أنّه يتعرض ولا بد لاختبار حزبي خبيث يرى في كل ما يمت إلى أمريكا بصلة مبعث حزن وشقاء، إلا أنّ بهاء عثمان “العجيب هذا” ما لبث أن تابع عروضه الدرامية غير المبالية، كسلوكِ بنت ليل، قائلا: “لا تشكرني، أنا. فقد دلني قريبي معاوية الكامل هذا عليك. قال إنّك ذكيّ. لو لا سوء الحظّ. ثم لا لهذا طلبت منك ألا تشكرني. بل لأنني إذا عذرتَ لي صراحتي أم لا يا حامد لا أرغب في رؤيتك مرة أخرى. لدي الكثير الذي يشغلني. أو فلنقل بعبارة أخرى: اعتبرني هنا على أقلّ تقدير كرسالةِ إنقاذ ساقها إليك القدر. هيا إذن ساعد نفسك. اقلع عن ممارسة العادة السرية (ابتسم). ثم دع جانبا تلك الأوهام عن الإمبريالية (لم يبتسم هذه المرة). فأنا أعرفكم جيدا معشرَ هذا اليسار (وقعت عيناه خطفا على هيئة معاوية أسيرة صمتها المطبق المتفكّر ذاك)”.
كان بهاء عثمان، وهذا ما أخذ يرسخ في ذهن حامد عثمان مع مرور الوقت، من شاكلة ذلك النوع من البشر، الذي يملك تلك القوة السحرية الموحية للسلطة، التي تشلّك وتجبرك، في مرحلة تالية، على قبول ما تقرره وتسميه هي، من دون أي فرصة محتملة أو قائمة هناك للسجال أو المناقشة. كان حامد لا يزال جالسا، على الكنبة، وقد تكلّستْ عظامه المتصلبة أصلا، باتجاه وجه الضيف الغريب، وهو عاجز أكثر من ذي قبل، حتى عن الالتفات، إلى معاوية القابع، إلى جواره، كحجر ولا بد. أما بهاء عثمان نفسه، فقد كان لا يزال بدوره على حال راسخة من حضور ذاتي مهيمن لا تدري بالضبط “ما مصدر قوته”، ومع كل ذلك، لا يني يتوغل بوقاحة، بعيدا هناك، داخل عينيّ حامد المتسعتين دهشة وحيرة وأشياء أخرى مبهمة وغامضة. باختصار، بدا بهاء عثمان، في رقدته تلك قبالتهما، على سرير الحديد الضيّق، مثل رجل جاء ببساطة شديدة في مهمة ذات هدف في المتناول وسهل.
لم يحرّك معاوية بدوره وحتى النهاية مجرد حصاة ذات نفع ويرمي بها محدثا صوتا على بحيرة الصمت المتكونة منذ نحو الدقيقة. إلى أن اعتدل بهاء جالسا. وأشار إلى معاوية بالمغادرة متجها بعينيه صوب باب الشقة المغلق. وهو يمد يده، مودعا، قال بهاء: “مع السلامة، حامد أخي”، بنبرة بدت لحامد الذي لم يتوقف عن الحيرة قطّ تلقائية ومفعمة بالعفوية. ومضيا معا، بهاء وقريبه معاوية، مثل جنديين متحالفين، دل أحدهما على الطريق، اما الآخر، فقد ألقى سلسلة من قنابل، على منجم روح حامد عثمان المنغلق، بصخور السلبية المصمتة وربما كذلك قلّة الحيلة وحتما ضعف القوة، وقد تواريا أخيرا عن ناظريه، وهما ينحرفان يمينا، خارج بوابة البناية المشرعة. أحدهما وهو معاوية “إلى حين”. أما الآخر كما قد أعلن منذ قليل وهو بالضبط ما قد حدث “فإلى الأبد”.
عبدالحميد البرنس
[email][email protected][/email]