الجذور العميقة لمأساة الامتحان المفبرك

بسم الله الرحمن الرحيم

لي..ولغيري من الذين أفنوا سني عمرهم في مهنة التعليم أن نسميها المأساة..فما جال ببالنا ولا ورد بخاطرنا ولا سكن هواجسنا يوماً من الأيام أن يكون لما حدث مكان يدور فيه..بالغاً ما بلغ بنا التشاؤم من مآلات التربية والتعليم..ولغيرنا كل الحق أن يشاركونا في توصيف هذه المأساة الوطنية..أو يطلقوا عليها الفضيحة .. ولهم كل الحق في ذلك.
ومخطئ موغل في خطأه من يظن أن الأمر هنا مجرد تقصير من إدارة تعليمية أو حتى الوزارتين الاتحادية والولائية..أو انعدام ضمير مصحوب بغباء مستحكم لنفر من المعلمين..ينتهي باستقالة الوزراء أو إيقاع أقصى أنواع العقوبة بالضالعين وإن بلغ حرقهم وذر رمادهم في الصحراء ليرتاح الضمير الوطني الذي تأذى من هول الواقعة . ببساطة ..لأن كل هذه الحقائق المريرة ..لا تمثل إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد..
ولا تمثل المعالجات التي تمت في شأن الضحايا من أبنائنا الممتحنين..مهما بلغ بها من حسن النوايا وسلامة الطوايا..إلا ذراً للرماد في العيون بوعي أو بدونه..بل تمثل في الواقع جزءاً من المأساة نفسها..كونها تعاملت مع النتائج ..أما المسببات الحقيقية ..فهي أعجز عن معالجة الكثير منها بكل تأكيد..
إذاً أين تكمن المشكله؟
لمحاولة الإجابة على السؤال..دعونا نعود إلى الوراء ..حيث بدأت السياسات العامة للنظام الانقلابي..تظهر ملامحها في كل المجالات ..وتهمني هنا ..سياسات التحرير الإقتصادي وما سميت بثورة التعليم ..حيث تشكلت بتزاوجهما الجينات الأولية لهذه المأساة..فما أعلن من توسع في التعليم كما عايش الجميع ..لم تكن للدولة أية إمكانات لتنفيذه..بل كان محض أهداف مدسوسة لتشكيل النشئ ..إتقاء سيطرة الطائفية بعيد كل ثورة وعودتها إلى الحكم من مناطق التخلف ..كما صرح لصحيفة السودان الحديث عرابها الترابي يومئذٍ..فتوسعت مدارس الأساس ..وبإلغاء المرحلة المتوسطة ..توسع التعليم الثانوي في مبانيها..وشتان بين مدراس بنيت لتوافق المراحل العمرية لكل مرحلة..لكن الأنكى كان في عدم توفير المعلمين الأكفاء ..خاصة بعد إحالات الصالح العام لكثير من الشرفاء…فكان الحل ..اللجوء إلى منسوبي الخدمة الوطنية..الذين لم يمثل لهم التعليم سوى محطة يطلق بعدها سراحهم ..عوض الذهاب إلى مناطق العمليات في الحروب المستعرة..وقد وصل الحال إلى أن مديري بعض المدارس الريفية كانوا من منسوبيها..فكان طبيعياً أن يفقد الآباء الثقة في المدارس..ويتصاعد التذمر..وهذا العجز للدولة ..تفتقت عنه فكرة تحميل المجتمع جزءاً من عبء التعليم..والذي تمثل في الرسوم الدراسية الثقيلة في المدارس الكائنة ..لكن آليات السوق بفعل التحرير الاقتصادي بدأت العمل تلقائياً ..لتحيل قدامى المعلمين اللاهثين في سد الرمق ..إلى تروس في الماكينة المتوحشة..لتنشأ المصالح المالية وتحالفاتها مستخدمة كل أساليب التجارة..باستغلال الطلاب المعيدين لسنتهم ونتائجهم في الدعاية في بادئ الأمر..حتى قر في وعي المواطن..أن النجاح صار مربوطاً بالمدارس الخاصة..وقد بدا ذلك بوضوح في ولاية الخرطوم..وهروباً من الحالة العامة في التعليم الحكومي إلى الأمام
..أبتدعت مدارس جمعت فيها المتفوقين..وأسمتها زوراً وبهتاناً بالمدارس النموذجية..فكان رد السوق سريعاً..إذ أطلق المسمى على أية مدرسة خاصة ..وصار مالوفاً أن تجد لافتة تحمل اسم المدرسة الخاصة النموذجية في أي منزل إيجار..وترى بداخلها الزنك والحصير..والناس مقبلون عليها فقدانا للثقة في كل ما هو حكومي..وبفعل الدعاية المكثفة التي نافست شركات الاتصالات.وهنا.. بدأت كبرى مسببات مأساتنا هذه..حيث أن الداخل إلى أية مدينة أو قرية في أي جزء من السودان ..لم يكن ليحتاج لدله على مبنىً بأنه مدرسة ..لأن المواصفات الخاصة للمدارس كانت مرعية بحزم وصرامة..أما المدارس الخاصة فلا تعرف إلا بلافتاتها..خاصة في بداياتها..لذلك كان طبيعياً أن يقتنع المواطن بأي لافتة تحمل اسم المدرسة..وهذا ما حدث لضحايا الواقعة التي نحن بصددها..ولكن هل توقف الأمر عند هذا الحد؟ بالطبع لا..فقوانين السوق الطفيلية لم ولن تتوقف عن العمل..ونوجز بعض مظاهرها
? صار وجود طلاب يمثلون المدرسة ضمن قائمة الشرف..ضرورياً لاستمرار هذه المدارس..وساعدتها طريقة إعلان النتيجة ..وبضغوط هذه الحاجة وغيرها..زادت قائمة الشرف لتصل المائة الأوائل بدلاً من العشرة ولم يفلح أيقاف إذاعة طلاب المدارس الخاصة لاحقاً بعد فوات الأوان ..فسوق الإعلان واسعة ..لكن الأنكى كان في استغلال الطلاب بتجميع أكبر عدد منهم عبر الدعاية..وتصفيتهم في الامتحان التجريبي النهائي..وكان يتم (بيعهم بالراس) لإحدى مدارس اتحاد المعلمين التي لا يهتم أحد بنتائجها..فتقبل المدرسة نظير مبالغ بعد مساومات..لذلك شكا الكثير من أولياء الأمور من تغيير مدارس أبنائهم عند الامتحان..ولا يمكن تفسير المط والتمديد في مواعيد التسجيل للامتحان لطلاب اتحاد المعلمين والمنازل..إلا مستصحبين الضغوط من ذوي المصالح على الساسة..مع اسباب أخرى منطقية .وقد يكون المعلمون في مثالنا هذا ممن عجزوا عن الإيفاء بإلحاق ضحاياهم إلى إحدى المدارس.
? سرعة تمكن البعض من بناء مدارس خاصة بهم عبر تراكم الأموال الفائضة من الرسوم وحصص التركيز والكورسات ..في ظل انعدام الضوابط والرقابة..كلازمة من لوازم الإقتصاد الطفيلي.وتحول أصحابها إلى قوة مؤثرة في الوزارة.
? انتشار المدارس العشوائية كما في مثالنا ..وما إغلاق مئات المدارس الخاصة التي تم تفتيشها إلا مثال لذلك ..لكن التفتيش وضوابطه ..جاءت متأخرة بعد أن اتسع الرتق على الراتق.
هذه بعض النماذج والأمثلة ..ولكن هل توقف التأثير عند هذا الحد ؟ بالقطع لا.. فالمال وجبايته كان وراء كثير من القرارات المتناقضة في الوزارة.لتعبر عن طبيعة صراع المصالح والمجموعات وسنورد بعض القرارات التي تساق بأسباب تبدو منطقية..وسنتابع فقط أتجاه المال فيها
..فمثلاً عندما كان المرحوم معتصم عبد الرحيم وكيلاً للوزارة وكان في نفس الوقت أميناً عاما لاتحاد المعلمين..ألغى شرط استخراج الشهادة الثانوية لطالب الإعادة الذي يمثل العمود الفقري لمال المدارس الخاصة ..لكن شرط أن يجلسوا ضمن طلاب اتحاد المعلمين..وذهب المال إلى رسوم القيد الواجبة السداد لصالح خزينة الاتحاد.وفي العام التالي ألغت إلوزارة القرار ..فذهب المال لصالح الربط المفروض في الميزانية على الإمتحانات..وبالطبع تذهب الحوافز إلى جامعيه واغتنى بعض مندوبي الولايات لاستخراج الشهادة الثانوية ..بل وعمل بعضهم وراء ظهر إدارات التعليم بالولايات التي أوكلتهم لحسابه الخاص بفرض زيادة تبدو طفيفة لكنها تتضخم بزيادة العدد.رغم تأذي إدارة الامتحانات من بعضهم
لكل ما سبق ..نستطيع القول أن كل المشكلة تكمن في سياسات النظام المشجعة للإقتصاد الطفيلي وسياسة السوق المفتوحة التي أطلقت هذا الجان المتوحش من قمقمه ..عليه فأن القول بذهاب النظام ..لتعافي كل مجالات الحياة لا يعتبر تهافتاً ولا هتافياً ..بل واقعاً تفرضه مآلات الأمور في كل مجال..
نختم بما كان يمكن عمله..إن التأكد من تسجيل المدرسة الخاصة كان ممكناً لو أشركت لجان الأحياء في الرصد والتبليغ ..أما الحلول التي قدمت فهي الممكنة فقط ..لكن نتائجها كارثية.
.ولتوضيح ذلك أسوق مثالاً واحداً ..ففي الثمانيات كانت إحدى أوراق امتحان الفنون تعطى للممتحن قبل أسبوع.وحضر طالب إلى مركز الامتحان بعد نهايته ظاناً أن زمن الامتحان في الفترة الثانية..وتعاطف معلمو المدرسة وأبدوا استعدادهم لانتظاره ما دام الأمتحان مكشوفاً..لكن عندما تم الاتصال بإدارة الامتحانات كان الرد الحاسم..إن توقيت الامتحان هو جزء من الامتحان..نعم خسر الطالب امتحانه ..لكنه كسب لبقية عمره أهمية الانضباط .لذلك كانت توقيتات إدارة الامتحانات صارمة ..ولا تجامل فيها مطلقاً ما أكسبها هيبة على مر الأزمنة..لكن عندما يكون هنالك تقديم للطوارئ حتى قبل أيام من الامتحانات ..تعلم أن إدارة الامتحانات محمولة على ذلك حملاً ..وما قدم من حل ..هو على حساب هذه الهيبة..أما بالنسبة للضحايا..فأي حل من هذا القبيل ..لا يعوض ما خسره جراء الهزة النفسية العنيفة ..والله يجازي اللي كان السبب.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. رحم الله الاستاذ المعتصم المرحوم الذى وزّع الحافز المليونى (165 مليون جنيه) على الفقراء والمساكين عبر مدير مكتبو قبل انتقاله الى رحاب ربه! على كل حال رحمه الله وغفر له صنيعه! فقد كان صاحب فكرة ذهاب السنه الاثني عشريه واختفائها من السلم التعليمى..وظل الرجل يدافع عن قرار سحبها من السلم التعليمى الى آخر رمق من حياته ..فى حلقة من حلقات حزمة ضوء للسيده الفضلى ماما ايناس.
    *وهى السنه اللى لحد اليوم الست الوزيره وكامل طاقمها التعليمى ما قادرين يعيدوها الى موقعها سواء لمرحلة الاساس ليكون 9 سنوات مما حيضطرهم لعملية فصل السنوات التسع عن بعضها باعادة المرحله المتوسطه الى بيعت مدارسها استثماريا فضلا عن بناء كادر تعليمى منفصل للمدارس المتوسطه! دا طبعن غير مستحقات المرحله اللى كانت موجوده قبل ذوبانها وذهاب ريحها واندغامها فى مرحلة ألأساس
    ولا قادرين اعادة السنه الى الثانوى ليكون 4 سنوات ودا بيعنى تغيير جذرى فى المسار التعليمى برمته اكاديميا واداريا! فى النهايه امران احلاهما مر ,, (دا حار دا ما عايزين ينكووا بيهو)
    * هل الوزيره وناسا لا يزالون فى انتطار “ألآليه” اللى وجه السيد على عثمان محمد طه بتكوينها لتنزيل توصيات مؤتمر التعليم الى ارض الواقع (من قبل 3 سنوات بالتمام والكمال)! لو تذكرون يا اهل السودان يا من اكتملت اعادة صياغتكم!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..