
كتب أحدُ الناشطين إسفيرياً على صفحته، وراج ما كتبه عبر التداول، مامعناه، أن : ” الحركة الإسلامية ابتدأت مسيرة حُكمها بمِسمارٍ غرزته في راس طبيبٍ، واختتمت عهدها بخازوقٍ في دُبر معلم! ” وياله من وصفٍ بليغ التجسيد، لحجم مأساةٍ، امتدَّ طولها لثلاثين خريفاً حسوما، و أثرها لأجيالٍ تكاتفت حتى الجيل الرابع ، شهدت البلاد خلالها جرائمَ لا يرتكب صِنوها إلا كلُّ ذي نفسٍ شائهةٍ، وضمير موؤدٍ، وقلبٍ منزوع الرحمة.
ما بين المِسمار والخازوق، رحلةٌ طويلةٌ، قضاها شعبٌ كاملٌ، وهناً على وهنٍ دون فِصالٍ ، وضَيماً يحتضن التِيه دون فكاكٍ، في كل الخطاوي ، مُلتحفاً الخوف والوجل ، كلما غابت عن الوطن شمسٌ وأهلَّ عليه قمرٌ ، خِشية الغد الذي لا يدري كيفما وأينما يكون مصيره فيه، وبإمتطاءٍ للبؤس طيلة ساعات صحوة الشمس، حتى يتلاشى لها ضوءٌ ، و وُضُوءٍ بالرجاء قبل كل يقظةٍ لسنا الفجر وشروقه .
ما بين المسمار والخازوق، مئاتٌ من الذين كابدوا مشقة التعذيب الممنهج، حتى ضمُرت فيهم أطرافٌ، واعتلت لهم أبدانٌ، وانعدم لهم شعورٌ.. ومنهم من انتاشته لوثةٌ، لم تحرِّك العقل من حيِّزه المكاني، لكنها جعلته عطيلاً عن التجاوب مع الناس والدنيا وكُلِّ حِراكٍ.
مابين بشاعةِ الجُرم الأول وفظاعة الأخير؛ انقضت وارتحلت أرواحُ ألوفٍ من شهداء المعتقلات والحروب، التي أوقدت لها الحركة الإسلامية وحزبها القميئ سيئ الذِكر ناراً مُستعرةً، لا يتغشاها مطرٌ ولا تُخمد برمادٍ، وتمزقت أواصرٌ لأُسرٍ، وتشرد أعضاؤها بفقدان العائل والمُرشد .. و كثيرون اكتووا بشظفِ العيش جرّاء الفصل التعسفي، و منهم من هام في بلدان الله الواسعة، صحارٍ ووديان، يضربون أكباد الإبل، بحثاً عن لقمةّ حلال، بعدما أُجبروا على مغادرة بلادٍ طوى أديم أرضها رُفات سلفٍ صالحٍ لهم ، و احتضنت سماؤها ذكريات طفولةٍ وشبابٍ غض، بذلوه في سبيل رفعتها وسموها نهاراً، وفي تفشي البهجةِ والحبور والثقافة بين مواطنيها ليلاً، دون مظنةٍ، أن سيأتيهم، يومٌ، يُقتلَعون من فراشهم نحو المعتقل، بفعل رأيٍ عتيه، لفكرٍ مسمومٍ، ومنه إلي طائرةٍ، طوعاً أو جبراً، لتقلهم نحو عوالمٍ ودولٍ ، لا يجمعهم بقاطنيها لسانٌ مشترك ، ولا أنيسَ أو عقيدة .. الطمأنينة على النفس والروح وسيادة حكم القانون كانت مقصدهم وعظيم مُرتجاهم، وفيها وجدوه، دون سؤالٍ عن أصلٍ وفصلٍ وديانة، وحدها المواطنة هي الأساس ومنشأ الحقوق والواجبات .
مابين نفسين سلبت روحيهما، انهدمت قيمٌ وأطلَّ في الأرضِ الخرابُ، ونشأت دولةٌ كاملةٌ، أُسست مبانيها على صخور الجهلِ، واعترشَ سقفها خشب الفساد، واستقر في حُجراتها وممراتها وديوانها أثاثٌ طُليَّ بدِهان الأكاذيب والفجور ، وسوّرتها حوائطٌ ما استطالت إلا بأحجار الخُرافة والدجل.
فهل يستقيم إثر كل ذلك أن يُترك المجرمون دون حسابٍ جرّاء انتزاعهم ، سلفاً، العفو والسماح والغفران من نفوس السودانيين، بعد طول مقامٍ ومُستقرٍ لها طيلة أزمنةٍ سابقة قبل غزوتهم الفجرية ؟!! كلّا وأيم الحق، فلن يستقيم للوطنِ ظلٌ طالما كان عودُ الحقيقة والعدل أعوجُ.. ولا بد مما ليس منه بدُ، تفكيكاً، وعزلاً، ومحاسبةً، واسترداداً وتصحيحا.
فبغير الذي يُفترض أن يُتم ويُنجز خلال الفترة الإنتقالية من صحيح المهام ، لن يستوي للديمقراطية القادمة ساقٌ، ولن تستطيل لها حوائطٌ.
محمود دفع الله الشيخ، المحامي