الذكرى الثامنة لرحيل الفنان الفذ عثمان حسين

في ذكرى رحيله الثامنة التي مرت علينا بالأمس، عادت بي الذاكرة إلى ذلك اليوم من أيام شهر يونيو من عام (2008)، حين كانت الدموع لا تزال تملأ المآقي حزناً ولوعة على رحيل الفنان الفذ عثمان حسين، عطّر الله قبره، وكان مكتبي المتواضع يومها قد استحال إلى ما يشبه صيوان العزاء، ضم ثلة من الزملاء والزوار جمعهم حب أبوعفان واجتمعوا لرثائه بلا اتفاق غير أن اللحظة قد وافقت ذاك الحدث الجلل، هذا يتناول مأثرة من مآثر الراحل، وذاك يضيف معلومة، إلا عمّار فقد كان للغرابة مطرقاً وساهماً رغم دوشته المعروفة، ولكن لم يمر على صمته المريب ذاك سوى هنيهة إذا بصوته الجهور يجلجل اسمعوا هذه القصيدة..
وكانت (حليل عثمان) قصيدة في رثاء فقيد البلاد الفنان المطرب المبدع عثمان حسين، خرجت من بين فرث الحزن على فراقه ودم حب الناس له الذي سرى في وجدانهم مسرى الدم في العروق، حتى صار عثمان شاديهم وحاديهم الأقرب إليهم من حبل الوريد، وقد نال مكتبي المتواضع بالصحيفة شرف (عبقرية المكان) بشهوده لميلاد هذه القصيدة التي سارعت عدة صحف لنشرها وقتذاك، لما فيها من شجن أليم وما انطوت عليه من حزن نبيل لفنانٍ جزيل العطاء، وهكذا دائماً تخرج الأشياء الصادقة في يسر وسهولة وسلاسة، حيث لم يستغرق الأستاذ الزميل عمار محمد آدم، ناظم هذه القصيدة سوى دقيقة بعد أن أطرق لبرهة لينطلق بها لسانه كاملة ومتكاملة على النحو الذي طالعه القراء حينها، وكعادة عمار الذي لا يبالي بما يقول ولا يكترث لما يفعل، بل يلقي كلامه أو يأتي بأفعاله بكل عفوية وكيفما اتفق ثم يمضي لحال سبيله غير آبه بعقاب أو طامع في ثواب أو مبالٍ بأية ردود فعل، بطريقته هذه كان قد سألنا عمار بغير مبالاة، رأينا في القصيدة وكأنه لم يكن ينتظر منا قدحاً لها أو مدحاً، ولكنه سُرّ أيما سرور عندما اقترح عليه الزميل إسماعيل حسابو الذي كان أحد شهود ميلاد القصيدة، أن يستبدل كلمة (قاعدين) التي أوردها عمار في آخر البيت الأول بكلمة ساكنين، فاستطابها عمار وسارع إلى تغييرها رغم اعتراضي على التبديل ومطالبتي بالإبقاء على كلمة (قاعدين) التي جاءت في سياق يقول (أُعزّي مقاشي والناس الهناك قاعدين)، وحجتي أنها تناسب المقام في الريف ــــ كل الريف السوداني ــــ وليس مقاشي وحدها، فالإقامة هناك في رأيي (قعاد) أكثر منها سكنى، فالحال الذي آل إليه الريف يُغني عن أي تفسير، بل العاصمة نفسها أصبحت أم الأرياف، يهرب منها المقتدرون للعواصم الأخرى للاصطياف أو العلاج، أو ليشهدوا منافع أخرى تفتقر إليها عاصمة بلادهم، وتلك مرثية أخرى..
لقد شقّ عليَّ نعي أبو عفان، مثلي مثل الألوف المؤلفة التي ألّف بين قلوبها حب عثمان، ولهف قلبي على زميلنا بالمرحلة الثانوية إبراهيم الملقب بـ(شلن) لصغر حجمه، الذي كان دائماً ما يتباهى ويتفاخر في تلك السن الباكرة بأنه لا يعرف إلا ثلاثة (الله والهلال وعثمان حسين)، ومن عظمة عثمان وعبقريته أنه استطاع بمقدرته الفذة على النفاذ إلى سويداء القلوب والسيطرة على المشاعر، أن يغزو قلب شيب وشباب ونساء وعذارى قبيلة رعوية مثل قبيلة الأمبررو، لها كل التقدير والاحترام، قبيلة لا تغشى الحواضر إلا لماماً، وكل حياتها بين الدغل والسهل ولا يهمها ما في الحياة من بهرج وزخرف إلا أبقارها ذات القرون الطويلة المميزة، وما تنتجه من لبن وسمن وزبد وروب، وتستعين على قساوة الطبيعة ووحشة الأحراش بالاستماع لعثمان حسين، الذي يقال إن القبيلة كلها لا تهوى غيره من المطربين، ورجال الأمبررو مستمعون وذواقون من الطراز الأول، ولهم ولع خاص بالراديوهات والمسجلات، وقلمّا تجد أحدهم لا يتأبط راديو أو مسجلاً بعد أن يتفنن في تذويقه وتجليده بجلدٍ فاخر أو قماش مختلفة ألوانه، يسر الناظرين، وفي حب الأمبررو لعثمان حسين تقول إحدى النكات، إن أمبرراوي دخل المدينة على عجل لقضاء بعض حاجياته المستعجلة ومن بينها بالطبع أشرطة لعثمان حسين، فوقف عند صاحب طبلية ممن يبيعون الأشرطة وسأله في لهفة (إندك أُسمان هسين)، قال (الطبّالي) نعم، قال الأمبرراوي (خمسة جيب).. التحية لقبيلة الأمبررو الذواقة الفنانة، فما يعشق عثمان إلا فنان، والرحمة والغفران لك أبوعفان، القامة الشامة..
[email][email protected][/email]