ومحمد الوردي حنجرة الوطن ..

في طفولته البعيدة سمع طنين الموسيقى في أدنيه مع أصوات العالم وانتحاباته .. مع هدهدة الأم واهتزازات السعف في دؤابات النخيل وجؤار النيل وهو يحاور صخرة تعترض مجراه.. مع أصوات الحقل والناس.. مع الغناء العميق الذي ينطلق من عمق الذات النوبية حيث ترقد تحت الرمل والصخور منابع أرواحنا الحضارية .. ثم عاد واكتشف عشاً للبلابل في حنجرته فأدرك أنه منذور للتعبير بالموسيقى عن الأعماق البعيدة حيث لا يصل مبضع الجراح ولا مسحاة الآثاري هبطت على كتفيه تلك الأمانة الثقيلة وهو بعد يافع غرير فنهض لها نهوض الرجل الناضج وبعينين مفتوحتين تخلى عن مصدر رزقه الأكيد في الاشتغال بالتعليم وعن ارتباطاته المادية من كل نوع ليدخل مغامرة الفن ويحقق فيها أسطورته في الدنيا.
رأيته للمرة الأولى في منتصف الخمسينات في ثانوية خورطقت ذات العبق العابق والجمال وكان مثلنا في أول العمر وأول الأحلام.. ومثل بلادنا نفسها التي انطلقت لتوها من الأسر وأصبحت- في أوهامنا وأحلامنا-موعودة بالسماء وما حوت والأرض وما انطوت عليه من الخير والنماء.. وكانت أحلامنا جذلى وموعودة بالتحقق والامتلاء. ولكن لقائنا الثاني كان يؤكد عكس ما حلمنا به في العمر الجميل وكان نذيرا بأننا سنحيا لنرى الاحلام تنهار وسرب الأماني يتبدد ونعرف طعم الخيبة والندم. فقد التقينا في مظاهرة غير شرعية تصدت لها الشرطة بقنابل الدموع وفرقتها في كل الاتجاهات واعتقلت الفنان الأسمر الفارع الطول الذي رفض أن يتفرق حين تفرقت المظاهرة.
كان ذلك عام 1959 والدكتاتورية العسكرية الأولى تعقد هدنتها مع حركة التحرر الناصرية بلهوجة وارتجال على انقاض المستودع الحضاري الأول لأفريقيا والسودان وتبيع أمجاد ترهاقا وأسلافه وأخلافه(لا يهم الثمن) باستعجال واضح لتكسب صمت حركة التحرر عن فتكها بالديموقراطية السودانية الوليدة وأحلام السودانيين بعالم جديد.
كانت مظاهرة نهارية قوامها طلاب جامعة الخرطوم وأهالي النوبة المنكوبين وكانت سنوات الاستقلال الثلاث قد أنستنا رائحة الغاز البديء وشكل قنبلة الدموع التي انطلقت تتدحرج تحت اقدامنا مصدرة خيطا ابيض من الدخان المغثي جعل المظاهرة تتململ ويصطدم بعضها ببعضها الآخر ثم تتزاحم مولية في كل الاتجاهات. كان ذلك افتتاحا زاهي الألوان لحياتنا الجامعية فقد دخلنا الكلية بعد انقلاب نوفمبر العسكري ببضعة شهور وتركناها بعد سقوطه ببضعة شهور وخلال ذلك قطعنا مئات الأميال ونحن نعدو أمام سياط الشرطة وهراواتها وحين جاءت لحظة التخريج كان من المناسب أن نطالب لأنفسنا بشهادة أخرى في عدو المسافات الطويلة.
أخذوا الفنان الأسمر الفارع الطول في الاعتقال فسرت في أرجاء المدينة كهرباء غاضبة ثم حاكموه وحبسوه مرسخين بذلك مبدأ أساسيا من مباديء الدكتاتورية هو مبدأ أن لا كرامة لكبير اذا راح يهدد السلطة ويسعى في انتزاعها ولو كان في المكانة الادبية والفنية لمحمد الوردي أو في مقام العمر والهيبة الذي كان يحتله شيخنا الحاج مضوي (والذي لم يمنع السلطة الاخشيدية من وضعه في زنزانة ببيت اشباح السيتي بنك) أو إذا كان في مقام مؤرخ السودان وراوية سيرته كالدكتور أبو سليم (والذي لم يمنعهم ذلك من احالته على معاش ما بعد المعاش) عرف محمد الوردي أن السياسة ليست ترفا يتعاطاه أصحاب الثروة والجاه ليقام كشك الوزارة أمام مساكنهم لبضعة أشهر أو لبضعة أعوام وانما هي حياة الناس.. أرضهم التي يقيمون عليها او يهجرون منها…تعليم اولادهم وقوت عيالهم ومقادير رواتبهم…أنها دنياهم التي فيها معاشهم وليست آخرتهم التي فيها معادهم. وعرف أيضا أن على المرء أن يعطي من ذات نفسه لتصير الحياة أصفى لوناً وأطيب ايقاعاً ومن هناك امتزج فنه بقضية الوطن واستطاع أن يصل إلى الفن العظيم وهو يغني لمفردات الوطن وينفخ الروح في أحلامه وهفو روحه إلى الحرية والعيش الكريم.
من الدكتاتورية الأولى التي سجنته إلى الدكتاتورية المايوية التي أقامت له صليبا ودرب آلام إلى هذه الدكتاتورية الاخشيدية بثأرها القديم عند كل ما هو فن وكل ما هو إبداع…من منفى إلى منفى.. من غربة موجعة إلى غربة أشد وجعا وإيلاما.. والمتسلطون يجربون معه كل ما لديهم من الفنون: ترهيب وترغيب.. إشاعات بأنه قد عاد، إلى اشاعات بأنه قد مات.. إعجاب وشتائم.. مطاردة لفنه تتلوها فترات من الهدنة والوئام .. انتقاءات لغنائه العاطفي المترسخ في وجدان الناس وتغييب لفنه الوطني الذي لا يقل عن ذلك ترسخا وتمكينا.. ولكن الفنان الكبير ينطوي على آلامه ولا يبدي سوى الرضاء بدفع ضريبة الوطن.
ها هي الآن قد مضت عشر سنوات وربما أكثر على خروجه من الوطن وها هي الرياح السعيدة تنقله إلى امريكا وتتيح لنا اللقاء. ولكنها لم تكن الرياح السعيدة وحدها التي اسعدتنا به فقد كان من خلفها جندي مجهول من جنود الفن والتنظيم وقيادة المجتمعات هو ابننا الحبيب منتصر جنبلان الذي اقتطع من وقته واستطاع أن يرتب لمحبي محمد الوردي الخصوصيين حفلة من حفلات العمر.
جمهور صغير لا يتجاوز المائة وخمسين من العشاق والحواريين كلهم محب لمحمد الوردي وكلهم محب للآخر لمحبته في الوردي.. وجوه صبوحة متفتحة للفن والحياة أحدقت بفنانها الذي اعتبرته كنزها وفخرها في بلد يجهل عن السودان كل شيء وأحاطته بحبها وإعزازها فبادلها حبا بحب.
وردي الذي يغضبه الإكثار من(الهز) في حفلاته العادية كان يتجول بمكرفونه بين الموائد يحيي الناس ويحيونه ويخص كلا منهم بنظرة تنطوي على معان.. وردي الذي يغلق أبواب حفلته بعد الوصلة الثالثة أو الرابعة كان سخيا جدا.. راح يتحفنا بباقات أغانيه واحدة بعد الأخرى حتى خفنا عليه فقد كان مريضا وكنا متنازعين بين الخوف عليه والاستمتاع بفنه المحبب للنفوس. ولكن دعوني أسارع لتطمين محبيه فهو في خير صحة.. ربما كان وزنه أكثر قليلا من المعتاد ولكنه نفس الشاب الأسمر الفارع الطول الذي تسكن العنادل حنجرته ويسكن قلبه الرهيف حب للوطن نادر المثال.
كنت حائفا أن أجده ضعيفا متهالكا تحت وطأة المرض ولكن وجهه كان مشرقا مضيئا ووهج العزيمة ينطلق من عينيه ولم يكن محتاجا لشيء فقد أحاطت به القلوب وهرعت إليه عائلته الوفية من أصقاع الدنيا ولم يبق إلا أن يعثروا له على قطعة الغيار المناسبة ليستعيد الصحة والعافية ويعود إلى مسكنه الرسمي في قلوب محبيه وعارفي فضله على السودان والثقافة السودانية.
لم نكن وحدنا مع وردي ولم يكن وردي وحده معنا فقد آزرته في أداء الأغاني النوبية فنانتنا المبدعة البلبلة هادية التي تنسجم في فنها وتغني بكل أحاسيسها حتى ليخاف المرء عليها من شدة الانفعال وهي صفة لا يشاركها فيها من فناني السودان سوى فناننا الأثير محمد ميرغني.. وكان معه الفنان عبد الهادي على تلك الآلة الالكترونية التي تعزف كل الأنغام.. وكان معنا أبناء النوبة المصرية الذين جاءوا يحملون لمحمد الوردي هدية تذكارا ماديا لمحبتهم واعتزازهم ووقفوا معنا يرقصون مع أهازيجه ويرسمون علامات النصر وهو يغني للوطن الرائع الجريح.
في أوقات مثل تلك يكون للوطن حضور يملأ القاعة حتى لتكاد تلمسه بيديك وتتشممه بخياشيمك.. ومن لا مكان تهب عليك ريح بليلة الذيل تحمل شذى الارض الممطورة والحقول التي تزهر فيها الذرة واللوبياء.
ثم-آه يا وطني الحبيب- يخيل إليك أن الأحباب الراحلين قد عادوا إلى الحياة وصاروا يتحركون بيننا في تلك البقعة القاصية وأنهم ينتظرون إيابك محملا بالاقاصيص.
حملنا محمد الوردي إلى تلك الاماكن واولئك الشخوص ولكنه ادخر لي مفاجأة شخصية فقد أسمعني ?للمرة الأولى-“سلم مفاتيح البلد” وكان ذلك أمرا أكثر من مثير فقد تحولت الكلمات البسيطة التي كتبتها إلى دفقات من اللحن الناطق القوي واحتشدت بشحنات من العاطفة الجياشة التي تخاطب الروح وتهز الوجدان.. وجدتني أصغي إصغاء كاملا لأسمع الكلمات التي بتأثير اللحن المتشظي-شبه المتشظي-لم تعد مألوفة لدي.
وقف وردي في قلب القاعة وليس على منصة الغناء.. أي وقف بين جمهوره ومحبيه وعلى طريقة المطربين الثوريين العظام راح يمشق قامته الفارعة ويرفع يده مثل قائد يقول لرجاله: اقتحموا قلعة العدو، وهو يرفع عقيرته مهددا جيش الظلام:
بتهرب فين
وانت ايدينك الاتنين مخضبة دم
والدم فصيح
وبتكلم لغات الدنيا
عفارم عليك. وها أنا اعيد لأجلك كلمة قلتها ذات يوم:
انا سعيد ايها المحمد الوردي
أن ننتمي معا للامة المناضلة،
الامة المقاتلة،
للشرف الوحيد، في عصرنا الشهيد.
حياك ذو الجلال وأخذ بيدك إلى مسالك العافية والشفاء أيها الفنان الكبير عاشق بلاده الخاشع .. شفاك وامتع بك أمة تتجمل الدنيا في عينيها وانت تصدح لها وتهز مشاعرها بالعواطف الرقيقة الهفهافة. وفي عصور الظلام تصبح حنجرتها الداوية وصوتها الجهير.
==
واشنطن 1997
نشرت في (ظلال وافيال) الصادر عن مركز عبد الكريم ميرغني2003
حيا الله هذا القلم البديع
رحيقك وبرتقالك نثرا وشعرا يطرب يا شاعر امتى
كنت قد تساءلت مره لماذا لم يطل علينا ود المكى طيلة عمره فى اى لقاء تلفزيونى
لماذا لم نشاهد عاطف خيرى والصادق الرضى ومحجوب شريف ؟
وقد زحم الطريق الزائفون وزمرة العجزى عن الركض النبيل ؟
النبع اغفي وكل الكائنات نيام
الا انا والشذي والحارسيك قيام
متي تجاوزتهم وثبا اليك اجيء
شعري بليل وحضني بالورود مليء
بيتان من قصيدتك الجميله ..فالبرتقاله انت وبعض الرحيق انا.. لك الشكر يا محمد المكي ابراهيم
كم أبهرتنا بنمنمات قلمك المبدع
و أنت تحدثنا عن قامة شامخة في
مسيرة أخطر فنون القول تأثيراً في
وجدان الشعوب الثائرة ، ألا و هو فن
الغناء !!؟….
فظللنا نرتشف من كليكما كؤوس البهجة
عطر الله مثوى فنان الشعب وردي وزادك
القدير فناً و إبداعاً و أطال الله في عمرك حتى
ترفد هذا الشعب المكلوم بالآمال العراض !!؟….
“ولكنه نفس الشاب الأسمر الفارع الطول الذي تسكن العنادل حنجرته” الله الله على الوصف والتوصيف ….بحق لقد أتحفتنا وأبهرتنا بهذا المقال القصيدة المنمقة التي تداعب الاحاسيس فيذوبها شجنا وتحنانا للزمن الجميل الذي كانت تغرد فيه البلابل والعنادل … متعك الله بالصحة والعافية وأرجو أن لا تحرمنا من دفقات شعرك المياس.