السودان: حدود التأثير الأميركي

في أوائل شهر يونيو الجاري، اندلعت أعمال عنف في جنوب ولاية كردفان (التي تقع في شمال السودان على الحدود مع الجنوب) عندما شرعت الحكومة في الخرطوم في نزع أسلحة السكان الذين كانوا قد حاربوا إلى جانب "الجيش الشعبي لتحرير السودان" خلال الحرب الأهلية ما بين 1983 و2005. ونظراً لعجز جنود بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في السودان عن وقف أعمال العنف، وضغط الخرطوم على هذه البعثة لإنهاء مهمتها حالما يحدث انفصال جنوب السودان في التاسع من يوليو المقبل، فإن كثيرين يخشون تصعيداً للحرب. ومرة أخرى، تثير الأزمة في جنوب كردفان أسئلة عن حجم التأثير الفعلي الذي تملكه الولايات المتحدة على النظام في الخرطوم.
وفي يوم الخميس الماضي، أصدر أوباما بياناً يشيد بتفاهم بشأن "أبيي"، ويندد بالعنف في جنوب كردفان، مشيراً إلى أن الوضع في جنوب كردفان كارثي، حيث تتحدث تقارير مزعجة آتية من هناك عن هجمات على أساس الانتماء الاثني. وتندد الولايات المتحدة بكل أعمال العنف، وبخاصة القصف الجوي من قبل القوات المسلحة السودانية للمدنيين ومضايقة جنود حفظ السلام التابعين للأمم المتحدة وترهيبهم.
كما أن هذا البيان يسلط الضوء على إحدى نقاط التأثير الممكنة التي تمتلكها واشنطن على الخرطوم: "جزرة" تطبيع العلاقات. غير أن القيمة المتصوَّرة لهذه "الجزرة" قد تكون بصدد الزوال وخاصة أن ذلك لم يعد يمثل تأثيراً نظراً لأن الخرطوم لا تعتقد أن ذلك سيحدث أبداً (وربما تكون على حق).
ومن جانبه، يقول سفير الولايات المتحدة السابق في نيجيريا "جون كامبل" إنه بالنظر لعدم تسوية بعض مواضيع الوضع النهائي بين شمال السودان وجنوبه، وأمام ارتفاع بعض الأصوات التي تضغط على البشير في الخرطوم للتصرف بحزم وصرامة تجاه "الجنوب"، فإن الولايات المتحدة باتت تمتلك هامشاً أصغر للتأثير على البشير أو التقدم إلى الأمام بخصوص مسائل مثل شطب اسم السودان من على قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وإضافة إلى ممارسة الضغط من بعيد، فإن الولايات المتحدة تعمل أيضاً على الأرض للترويج للسلام في السودان، حيث يتوجه المبعوث الخاص "برينستون ليمان" إلى السودان هذا الشهر. ومع ذلك، فإن الطبيعة المحدودة لاستراتيجية "الجزرات" و"العصي"، مثلما قالت مارينا أوتواي من مؤسسة "كارنيجي" لوكالة الأنباء الفرنسية، ستحد مما يستطيع الدبلوماسيون تقديمه أو التهديد به. بل إن "ليمان" نفسه وصف التأثير الأميركي على السودان باعتباره محدوداً.
ولكن، إذا كانت الولايات المتحدة لا تستطيع الضغط على الخرطوم، فهل يستطيع أحد آخر فعل ذلك؟ يقول مراقبون إن المؤسسات متعددة الأطراف والصين بات لديهما اليوم تأثير أكبر على الخرطوم مقارنة مع الولايات المتحدة. وقريباً ستتاح للصين فرصة لممارسة هذا التأثير إن هي أرادت ذلك: حيث من المقرر أن يقوم الرئيس السوداني عمر البشير بزيارة للصين والالتقاء مع مسؤولين كبار. فالصين لديها مصلحة واضحة في السلام بالسودان؛ وبالنظر إلى أن قرابة 75 في المئة من نفط السودان يوجد في "الجنوب"، فإن بكين لديها حوافز قوية للحفاظ على علاقات متينة مع كل من "الشمال" و"الجنوب" -ومنعهما، إن أمكن، من الانخراط في حرب تعرقل صادرات النفط. وفي هذه الأثناء، استقبلت واشنطن، التي تعترف بإمكانية وجود تأثير صيني على الخرطوم، بخبر زيارة البشير بالتعبير عن الأمل في أن تساعد الصين في صنع السلام.
ومن خلال التراجع قليلاً إلى الوراء وتأمل ما يعنيه كل هذا بالنسبة لمسار التأثير الأميركي في أفريقيا، لديَّ نظرية لا أتبناها بقوة، ولكنني سأحاول عرضها على أنظار القراء: فحدود تأثير واشنطن على الخرطوم توضح جيداً بعض التغيرات المتواصلة في المشهد السياسي في أفريقيا. وشخصياً، لا أعتقد أنه سيكون باستطاعة واشنطن دائماً إملاء النتائج والتوجهات في أفريقيا -والأكيد أنه كانت ثمة أنظمة أفريقية خلال الحرب الباردة بقيت في السلطة على رغم المعارضة الأميركية عليها، وحركات تمرد أفريقية تحدت أصدقاء أميركا- ولكن نهاية الحرب الباردة وصعود الصين غيّرا دور أميركا في الحياة السياسية الأفريقية. وخلال العقدين الماضيين، انتهجت واشنطن سياسة غير ثابتة تجاه أفريقيا، فجربّت إنهاء الانخراط (الصومال بعد سقوط مروحية بلاك هوك)، وعدم التدخل (رواندا في 1994)، والعسكرة (مثل "أفريكوم" وبرامج عسكرية أصغر في أفريقيا)، والخطاب المؤيد للإصلاح (مثل ذلك الذي تستعمله وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في زياراتها للقارة)، والانخراط الدبلوماسي المكثف (مثلما هي حالة السودان).
وهذا التضارب وغياب الانسجام في الاستراتيجية العامة، إضافة إلى صعود لاعبين آخرين، منحا الأنظمة الأفريقية حرية أكبر للمناورة مقارنة مع تلك التي كانت لديها خلال الحرب الباردة. وهذا يساعد على فهم لماذا تبدو الخرطوم، وهي نظام وقع اتفاقاً رعته الولايات المتحدة على أمل تحسين علاقاته مع واشنطن، قادرة على التصرف على نحو يعاكس الرغبات التي عبر عنها الرئيس الأميركي. وفي النهاية، إذا لم يحب البشير ما يسمعه من واشنطن، فإنه يستطيع الذهاب إلى بكين، وسيفعل، لمعرفة ما يقولونه في الصين.
أليكس ثورستون
باحث أميركي متخصص في الإسلام بأفريقيا
ينشر بترتيب خاص مع خدمة
«واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»
وكالات