أخبار السودان

ممنوع توزيع البريد يوم الأحد

عبد الكريم يعمل موزعا للبريد، إنها وظيفة جيدة، رغم بعض المخاطر التي لا تخلو منها أية مهنة أخرى، مثل الجو والكلاب. الجو يستطيع دائما التعامل معه مجرد أن يرى النشرة الجوية في الليلة السابقة، لديه بذلة بلاستيكية يرتديها عند هطول المطر. معظم السكان يضعون على أبوابهم تحذيرا إن كان لديهم كلاب شرسة لا تحب الغرباء. لذلك يحاول وضع الرسالة بهدوء في صندوق البريد وينزلق هاربا قبل أن يتعرّف الكلب الى رائحته ويبدأ في العواء. في البيوت الكبيرة يكون صندوق البريد دائما في الخارج في الفناء بجوار باب الحديقة، يقوم بوضع البريد فيه دون مشاكل في العادة. لكن المشكلة دائما في الشقق الصغيرة التي يتعين عليه أحيانا طرق الباب اذا كانت الرسالة حجمها كبير أو هناك طرد مرسل، أو يتطلب تسليم الرسالة المسجلة توقيع صاحبها على ورقة تفيد إستلامه. حدثت له مشكلة صغيرة مرة واحدة مع رجل يبدو أنه لم يكن يحب الاعلانات البريدية. في العادة فإن من لا يرغب في الاعلانات يقوم بوضع ملصق صغير مطبوع بعلامات حمراء واضحة للعيان، لكن البعض لا يهتمون بإحضار هذا الملصق، ويكتبون بخط يدهم انهم لا يريدون اعلانات، واثناء عجلة التوزيع قد لا يلاحظ الموزع ذلك، خاصة إذا لم يستخدم صاحب البيت أحين يكتب الورقة بخط يده ألوانا تجعل إعلانه ظاهرا. ذات مرة وضع عبد الكريم الاعلانات في صندوق بريد أحد البيوت وبعد ثانية واحد فتح صاحب البيت الباب، وسأله بفظاظة: كيف تستطيع توزيع الرسائل في عناوينها الصحيحة وأنت أعمى؟
تساءل عبد الكريم مندهشا دون أن يفطن لما حدث، هل أنا أعمى؟
أشار له الرجل لورقة كبيرة كتب عليها بخط يده أنه لا يريد إستقبال إعلانات مع بريده وقال: كيف لا تكون أعمى وانت لم تر هذه؟
لاذ مرة بالفرار من هجوم كلب، كان عبد الكريم يحمل رسالة مسجلة، حين إنفتح الباب مد يده بالورقة للتوقيع عليها ففوجئ بأسنان الكلب في وجهه بدلا من وجه صاحب البيت! ترك الورقة والرسالة والحقيبة البلاستيكية التي يحمل فيها الرسائل ولاذ بالفرار، عاد بعد أن تأكد أنّ الباب أغلق ووجد حقيبته في مكانها. وجد ان صاحب البيت ترك توقيعه على الورقة ووضعها له داخل الحقيبة مع رسالة إعتذار لأن الكلب سارع بالخروج حين قام صاحب البيت بفتح الباب!
في المرة الأخيرة كان عبد الكريم يشعر بأنه ليس على ما يرام، يبدو أنها أعراض الانفلونزا اللعينة، أسوأ كارثة يمكن أن تحل بساع بريد، شرب كوبا دافئا من عصير الليمون مع مغلي الجنزبيل، وإرتدى أثقل ملابسه ثم خرج مبكرا للعمل، بعد إن استلم الرسائل التي سيقوم بتوزيعها، فكر في العودة الى البيت أولا فقد شعر برغبة في الذهاب الى الحمام، تسبب له الانفلونزا أحيانا الاسهال، لكنه قرر أن يواصل عمله، ويمكنه قضاء حاجته حين يتوقف منتصف النهار لتناول وجبة سريعة.
قام بتوزيع عدد من الرسائل وفجأة شعر بإعصار في بطنه، نظر حواليه فوجد أجمة أشجار صغيرة أمام أحد البيوت، فسارع اليها، وضع رسائله جانبا وجلس يقضي حاجته بعد أن حاول التوغل قدر الامكان داخل أجمة الاشجار، ذلك ممنوع حسب القانون، لكنه يؤمن ان القانون يجب أن يترك لمعالجة الاشياء الكبيرة، كيف يتدخل القانون في مؤخرة شخص فقد السيطرة على أعاصير بطنه؟ هل هناك قانون يجيز أن يتغوط الانسان على نفسه؟
قبل أن يفرغ جيدا، إنفتح شباك أحد البيوت التي تقع خلف أجمة الاشجار والتي اكتشف متأخرا أن ساكنيها بإمكانهم رؤيته ان نظروا من خلال النوافذ التي تطل على اجمة الاشجار، ودون ان يرى اية شخص سمع صوتا يهتف عاليا: ممنوع التغوط هنا يا سيد! هذا ليس مرحاضا عموميا!
إضطر ان يتوقف دون ان يكمل قضاء حاجته! نظّف نفسه بسرعة بمنديل ورق وارتدى ملابسه، تلفت حواليه حذرا مخافة أن يكون احدهم قام بابلاغ البوليس، لكنه لم ير شيئا ومن ثم جلس قليلا على اريكة في الشارع، ثم حمل رسائله وواصل عمله.
لحسن الحظ انتابته رغبات خفيفة لقضاء الحاجة استطاع كتمها بقية اليوم حتى أنتهى من عمله. حين عاد الى البيت مساء كان يشعر بإرهاق شديد، اليوم التالي هو يوم الأحد بإمكانه النوم طوال اليوم، كان يشعر بنوع من الغضب والاحباط من ما فعله الرجل الذي صرخ فيه بأن المكان ليس مرحاضا عموميا. يا له من شخص غريب! نعم القانون يمنع ذلك لكن الظروف تضطر الكثيرون على قضاء حاجتهم في الشوارع الجانبية أو تحت الأشجار في الحدائق العامة. لقد رأى كثيرا شبابا يشربون الجعة ويتبولون واقفين في كل مكان، حين يشرب الانسان الخمر لا يكترث كثيرا للعواقب الصغيرة، مثل ممنوع التبول أو ممنوع الكتابة على الجدران! يتبولون ويكتبون ويرسمون في كل مكان!
مع كل التجارب السيئة التي مرّت عليه أثناء عمله لم يشعربالغضب مثل تجربته ذلك النهار، ذات مرة اكتشف في حقيبته رسائل لم يقم بتوزيعها يوم السبت، استيقظ مبكرا يوم الأحد وقام بتوزيعها، حين ذهب الى مكتب البريد يوم الاثنين وجد أن بعض الناس قدموا شكاوي ضده لقيامه بتوزيع البريد يوم الأحد! دهش في البداية لكن مديره شرح له الأمر: بعض سكان الحي من المتدينين، الذين يؤمنون بحرمة العمل يوم الأحد، لا يقومون بأي عمل يوم الأحد ولا يسمحون حتى بوصول رسائل الى صناديق بريدهم، تفهم الأمر بإعتباره ثقافة محلية وتجنب منذ ذلك الوقت توزيع أية بريد يوم الأحد. لا يستطيع التمييز بين المتدينين وغيرهم! نفس المشلكة الدائمة: المتدينون يتمسكون بأشياء صغيرة. يشعر أنه يحب اولئك السكارى المرحين الذين لا يؤمنون بأي شئ، لكنهم يحترمونه ويرحبون به حين يقوم بتوصيل البريد ويعطونه هدايا صغيرة أحيانا!
حكى له صديق انه كان يقطع بسيارته الطريق في حي يكتظ بالمتدينين، ولسوء حظه، كان قد ضل الطريق وحين حاول التوقف لسؤال احدهم عن الطريق غرزت عجلات السيارة في الوحل ولم يستطع التحرك، اضطر لطرق اقرب باب مجاور طالبا المساعدة، شرح له الرجل أنه لأن اليوم يوم أحد لا يقوم فيه بإداء عمل لن يستطيع مساعدته! لكن الصديق كان من النوع الذي لا يقتنعأبدا بأية وجهة نظر، بدت له الفكرة سخيفة، الاديان نفسها تحض على مساعدة المحتاج واغاثة الملهوف فكيف تمنع شخصا ما من مد يد المساعدة؟ شرح للرجل وجهة نظره وانه لا يستطيع ان يترك سيارته او يبقى طويلا بسبب انخفاض درجة الحرارة وبدء تساقط الثلوج ما يعني ان الامر سيزداد سوءا وإن إنتظر بعض الوقت سيصبح صعبا إخراج السيارة.
استمع الرجل بصبر وشرح له مرة اخرى وجهة نظره، انه وطوال اكثر من اربعين عاما لم يقم بأية عمل في يوم الأحد، لأن ذلك حسب اعتقاده لا يجوز، لكن صديقنا وجد ذلك نوعا من التبطل ان يقضي الانسان اكثر من اربعة عقود دون عمل في يوم محدد، وشرح للرجل ان الديانات كلها تحض على فضل العمل ولا تمنعه ابدا وان المسلم يعمل حتى في يوم الجمعة يؤدي صلاة الجمعة في الجامع ثم يستأنف عمله بصورة عادية بعد الصلاة، رغم ان يوم الجمعة عند المسلم هو يوم غير عادي مثل يوم الأحد عند المسيحيين.
يبدو ان الرجل سئم الحوار وشعر انه لن يصل لنتيجة مع هذا الرجل الغريب، لم يقل كلمة واحدة دخل الى البيت واحضر مفتاح سيارته ومعه حبل طويل، جاء وربطه في عربة صديقنا ثم سحبها من الوحل الى الخارج وقام بأخذ معداته وغادر المكان دون ان يتفوه بكلمة واحدة ولا حتى ليرد على شكر صديقنا له.
قال عبد الكريم لصديقه بعد ان سمع القصة: يا لك من لحوح مزعج، لقد جعلت الرجل يكفر!
في اليوم التالي شعر عبد الكريم بأنه افضل كثيرا من اليوم السابق، شكر المتدينين، من يدري ربما لولا هؤلاء المتدينيين كان سيضطر للعمل حتى يوم الأحد! لكنه كان لا يزال يشعر بضيق وغضب من تصرف الرجل الذي قطع عليه قضاء حاجته! بعد أن ذهب الى الحمام جاء ليجلس أمام التلفزيون، يشرب كوب القهوة ويأكل الخبز، ازاح الستارة فرأى منظرا مألوفا، توجد غابة صغيرة خلف البيت الذي يسكن فيه، اعتاد بعض الشباب الذين يقضون ليلة الأحد في نوادي الرقص الليلية ان يتوقفوا للتبول فيها بسبب افراطهم في شراب الجعة طوال الليل.
رأى شابا يهم بخلع بنطاله يبدو أنه يعاني مثله من الاسهال، أو أنه أفرط في الأكل والشراب في الليلة المنصرمة، بمجرد أن جلس الشاب ارضا وشعر عبد الكريم ان الرجل يستعد لقضاء حاجته، حتى سحب زجاج النافذة للاسفل وصرخ بصوت عال:
لا ايها السيد هذا ليس مرحاضا عموميا!
إرتدى الشاب ملابسه بسرعة ولاذ بالفرار! شعر عبد الكريم بأنه اصبح افضل حالا وأكثر استعدادا لمواجهة شهور شتاء طويلة من توزيع البريد وكلابه ومشاكله الأخرى!

[url]www.ahmadalmalik.com[/url]

تعليق واحد

  1. الاستاذ الملك…دائماً كتاباتك تعانق الواقع المعاش… الانسان في بعض الحالات ضعيف جداً وخاصة في الحالة الصعبة التي ذكرتها… على الانسان مد يد العون لاخيه مهما كانت الصعاب…

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..