قواسم مشتركة

أصعب غربة يمكن أن تحس بها هي غربة الوطن، أما الاغتراب خارج الوطن فهو إما أن يكون اختياراً لتحسين الوضع المادي للمغترب ولأسرته، وإما أن يكون اغترابا إجباريا نتيجة أوضاع سياسية، أو أسباب خاصة أخرى يمكن أن تدفع للهجرة خارج الوطن. أما أن تحسن أنك غريب الوجه واليد واللسان داخل وطنك فهذا أصعب إحساس، وطعمه مرير جداً. ماذا تغير في المجتمع؟، لماذا لم يعد الناس هم الناس؟، لماذا كل هذا التغيير الذي حدث للمجتمع السوداني؟، لماذا هذه الفتنة وعدم القبول بالآخر الذي تجمعك به الإنسانية قبل الوطن والإسلام أولا وأخيراً. الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها في مجتمعنا، لماذا لم يعد يوقر الكبير ويحترم الصغير؟، لماذا ضاعت الأمانة وغاب السؤال عن الجار وإعانة المريض ومساعدة المحتاج؟، ماذا جرى للسودانين، ماذا غيرهم؟، هل غيرتهم السياسة والحكومات أم الأوضاع الاقتصادية الطاحنة ولا أمل في النهوض قريبا من هذه الأوضاع؟. لماذا لم يعد الإنسان في بلادي يأمن على نفسه حتى ولو أغلق عليه داره ونحن نباهي بالأمن في السودان الذي ما نزال نتباهى به والحمد لله حتى الآن يخلو تاريخنا وحاضرنا من جرائم الاغتيالات السياسية، فمهما اختلافنا ـ والحمد لله ـ لا نلجأ لهذه الجرائم، وهذا يحمد لنا في تاريخ السياسة رغم أزماتنا المتواصلة منذ استقلال السودان واندلاع الحرب الأهلية وانفصال الجنوب، والآن دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان وشرق السودان سابقا.
عاد محمد أحمد لموطنه في شمال السودان بعد غيبة دامت سنوات حسوما، إلى موطنه لم يجد من تربى معهم من أصدقائه وأهله، فالسنين فعلت فعلها، لم يعد ذلك المجتمع الذي تركه مات من مات وهاجر من هاجر داخل وخارج الوطن، انقضت أيام الاحتفاء به لم يستطع التأقلم على الوضع الجديد أحس بالغربة وسط من تبقى من أهله وأحبابه، ضعط على نفسه ليتحمل الوضع الجديد والكل يحاول أن يواسيه. وتحت جنح ليل دامس قرر الرحيل الأبدى هذه المرة، وفي دواخل نفسه يقول: غربة لغربة أحسن غربة خارج البلد، أما أن أعيشها داخل الوطن فإن الموت ولا شيء غيره.
تفاجأ أهل القرية الوادعة برحيله دون أن يخطر أقرب الأقربين إليه ليمضي تاركا ذكريات جميلة وأخرى حزينة، ولعله لا يعود مرة أخرى أو قد يعود جسداً يوراى هنا لا أحد يعلم، فلا تدري نفس ماذا تكسب غداً ولا تدري نفس بأي أرض تموت.
كنت حضوراً أمس في قاعة مأمون بحيري لملتقى الإعلام في مناصرة الشباب المهاجرين الذي أقامه جهاز المقتربين، تحدث مجموعة من الشباب عن تجربتهم مع الاغتراب، وعدم تأقلم الكثير منهم على السودان بعد عودتهم ومعانتهم في ذلك، والمجهودات التي بذلوا لأجل التأقلم ودافعهم لذلك كما قالوا حبهم لهذا الوطن الجميل. التحية لجهاز المغتربين على ربط شباب السودان في المهجر بوطنهم الذي نتمنى أن نظل نفاخر به رغم المحن. التحية لك الشاعر الكبير محجوب شريف وأنت تقول: وطن بالفيه نتساوى
نحلم نقرأ نتداوى
مدارس كهرباء وموية
تحتنا الظلمه تتهاوى.
[email][email protected][/email]