حوار البشير: حكمةُ الصُّقورِ الغائبة!

كمال الجزولي

(1)
رغم كلِّ المناشدات التي وجِّهت للمؤتمر الوطني الحاكم في السُّودان، حتى من بعض حلفائه، كي يتريَّث في تعديل “قانون الانتخابات” داخل “برلمانه” الذي يهيمن عليه، فعليَّاً، بنتائج انتخابات 1910م المشكوك في نزاهتها، إلا أنه استغشى ثيابه، واستكبر، ومرَّر، في 30 يونيو المنصرم، ستة عشر تعديلاً لذلك القانون. مع ذلك أصرَّ د. إبراهيم غندور، مساعد رئيس الجُّمهوريَّة، ونائب رئيس الحزب الحاكم، على “أن باب الحوار مفتوح” (وكالات؛ 1 يوليو 2014م)، يعني بذلك “الحوار الوطني” الذي كان اجترحه الرَّئيس البشير في يناير وأبريل من هذا العام، وصوَّره إعلام الحكومة وحزبها بأنه الفرصة الأخيرة لعلاج كلِّ أزمات البلاد.
كان قد استجاب لتلك الدَّعوة، في البداية، وإنْ بحماس متفاوت، عدد من كبار الزُّعماء، على رأسهم الصَّادق المهدي “حزب الأمَّة” رغم تململ قواعده، ود. الترابي “المؤتمر الشَّعبي”، رغم مفاصلته مع النظام منذ 1999م، وغازي صلاح الدِّين “حركة الإصلاح الآن”، رغم أن أثر فأس انشقاقه عن الحزب الحاكم ما يزال طازجاً، في حين قاطعته قوى “الإجماع الوطني” المعارضة والحركات المسلحة، كون الحل المطلوب يكمن، من زاوية نظرها، في “التفاوض”، لا “الحوار”، مع السُّلطة؛ وحتى بافتراض إمكانيَّة قبولها بهذا “الحوار”، على علاته، فإنها ترى أن المشروع المطروح ما يزال قاصراً عن تلبية أدنى أشراط الجِّديَّة، وفي مقدِّمتها وقف الحرب، وإعلان حسن النيَّة تجاه خيار السَّلام والتغيير بأن يطلق سراح المعتقلين والمحكومين سياسيَّاً، وأن تلغى القوانين المقيِّدة للحريَّات كافة، وأن يُدرج ضمن أجندة الحوار تكوين حكومة قوميَّة انتقاليَّة تشرف على عقد مؤتمر قومي لوضع دستور دائم للبلاد، وإجراء انتخابات حرَّة نزيهة، وما إلى ذلك.

(2)
لكن، رغم اتساع شقة الخلاف، لم يكفَّ النظام، طوال الأشهر الماضية، عن المكابرة الغليظة بأن الفرصة ما زالت تلوح لإنجاح “حوار البشير”، متجاهلاً حقيقة أن ذلك “الحوار” قد مات وشبع موتاً. ولعلَّ أبرز شواهد ذلك فترة الشَّهر الذي تكبَّده المهدي في السِّجن، قبل إطلاق سراحه بوساطة من بعض الشَّخصيَّات، لمجرَّد نقده لما يُعرف بقوَّات الدَّعم السَّريع، مع أن حماسه لـذلك “الحوار” كاد يطيح بوحدة حزبه؛ وإلى ذلك، أيضاً، القبض على القيادي المعارض في كتلة “الإجماع الوطني” إبراهيم الشَّيخ “حزب المؤتمر السُّوداني”، وإيداعه السِّجن، هو الآخر، تمهيداً لمحاكمته بذات التهم التي وجِّهت للمهدي، مع أن أكثر ما يحتاجه النظام، في ما لو كان جادَّاً، منسجماً، وموحَّد اللسان، هو اجتذاب المعارضين، لا تنفيرهم؛ هذا فضلاً عن رفض د. غندور، ومن قبله الرئيس نفسه، الاستجابة لأحد أهمِّ مطالب المعارضة الأساسيَّة، وهو تشكيل حكومة “قوميَّة” لإدارة البلاد خلال فترة “انتقاليَّة” (وكالات؛ 1 يوليو 2014م)، وما صحب ذلك، كما سبق أن ذكرنا، من تمرير لتعديلات قانون الانتخابات بإرادة منفردة، ما دفع حتى حزب الترابي، أكثر المتحمِّسين لـ “حوار البشير”، إلى التهديد بمقاطعة الانتخابات، واصفاً إيَّاها بأنها “محطة ترسِّخ عزلة الحكومة” (وكالات؛ 6 يوليو 2014م).
على الرُّغم من ذلك كله ها هو البشير يتشدَّد في التأكيد على أنه “لا يوجد سبب لتأجيل الانتخابات في أبريل 2015م!” (اليوم التالي؛ 14 يوليو 2014م).

(3)
قد يكون من المحيِّر، حقاً، أن يَعْمَدَ نظام تحاصره أكثر المشكلات تعقيداً لاتخاذ أكثر المواقف تشدُّداً! فما من أحد يعجزه أن يضع إصبعه، الآن، مغمض العينين، في كتاب أزمة الحكم، على مشكلة المجاعة التي أعلنت وكالات الأمم المتحدة المتخصِّصة أنها تدقُّ بوَّابة البلاد بقوَّة، بل ويُتوقع أن تجتاحها خلال فترة لن تتجاوز سبتمبر القادم، علماً بأن السُّودان قد صُنِّف، العام الماضي، في المركز 171 بين 187 دولة في مؤخرة دول العالم التي تشهد تراجعاً ملحوظاً حسب مؤشر التنمية البشريَّة. والمؤكد أن معدَّلات الفقر غير المسبوقة، والتي طالت حتى الطبقة الوسطى، لن تسمح للنظام، هذه المرَّة، بمحاصرة المجاعة في الأطراف البعيدة، كما ظلَّ يفعل دائماً، بل لن يستطيع مجابهتها، يقيناً، حتى داخل الخرطوم نفسها، بما سيعيد إنتاج “سنة ستَّة” التي ما بارحت طيوفها ذاكرة السُّودانيين التاريخيَّة! دَعْ، بطبيعة الحال، مشكلة الحرب المستعرة في شتَّى أنحاء البلاد، بما فيها القصف الجَّوِّي للمدنيين، ومنع وصول الإغاثة للمتضررين، وإلى ذلك مشكلة المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، والفساد المتغلغل في مؤسَّسات الدَّولة، والتشققات الآخذة في التفاقم على صعيد صفِّ النخبة الحاكمة نفسها، وانعدام الماء ليس في أقصى غرب السُّودان أو أقصى شرقه، فحسب، بل وفي مدن الوسط ذاتها، بما فيها العاصمة التي ترقد على شواطئ ثلاثة أنهار، وكذا مشكلة الكهرباء، والبطالة، والأمراض المستعصية، وانعدام الأمن، وغيرها!
وربَّما ليس أبلغ في التعبير عن عمق هذه الأزمة من تراجع حتَّى الذين وثقوا، قبلاً، في “حوار البشير”، وقبلوا الانخراط فيه بلا شروط مسبقة، ثمَّ ها هم قد انقلبوا يتشككون في جدواه، حيث أكدت سـارة نقـد الله، الأمينة العامة لحزب الأمة، أنهم أوصدوا باب ذلك “الحوار” (الراكوبة؛ 15 يوليو 2014م)؛ ثمَّ جاءت تصريحات الإمام الصَّادق، رئيس الحزب، لتؤكد، في اليوم التالي مباشرة، وبأقوى العبارات، حديث أمينته العامَّة، واصفاً “الحوار” بأنه “تتحكم فيه الأهواء، والعشوائيَّة، والمواقف الفرديَّة”، ورافضاً، على حدِّ تعبيره، “أن يردفنا المؤتمر الوطني في عجلته”، ومتَّهماً الحزب الحاكم بأنه “حصر مقاصد الحوار في مشاركة الآخرين في مسيرته العاثرة”، وطارحاً شروطاً لعودة حزبه لمائدة “الحوار” يتطابق بعضها مع أكثر شروط كتلة “الإجماع الوطني” تشدُّداً (السُّوداني؛ 16 يوليو 2014م). وكان حزبا “الأمَّة” و”الإصلاح الآن” أصدرا، قبل ذلك، بياناً اتَّهما فيه صاحب “الحوار” بأنه يعتبره محض وسيلة لإشراك المعارضة في السُّلطة على هواه، بدلاً من اعتباره إجراءً لتغيير بنيوي يفضي للتوافـق على شــروط الدَّولة الوطـنيـَّة المنشودة (الرَّاكوبة؛ 10 يوليـو 2014م). ولم تستنكف عن الجَّهر بمثل هذه المواقف السَّالبة حتى بعض الأحزاب الصغيرة التي لطالما عُرفت بـ “تأليف قلوبها”، على نحو أو آخر، مع الحزب الحاكم، كحزب العدالة الاجتماعي الذي قال رئيسه أمين بناني إن “الحوار” انتهى نهاية غير سعيدة، وإنهم لن أن يعودوا إليه إلا إذا توفرت شروطه وضماناته (الانتباهة؛ 15 يوليو 2014م).

(4)
وعلى كثرة ما يمكن التفكير فيه من دوافع لاستعصام النظام بالتَّشدُّد، والتَّشبُّث بهذه المواقف الحدِّيَّة، فإن الدَّافع الأبرز بينها، على ما يبدو، هو استهانة “صقور” النظام بقوى المعارضة السِّياسيَّة، واطمئنانهم، من ثمَّ، لما يتصوَّرون من غياب المهدِّد الجدِّي لسلطتهم ومواقعهم، وهي الأكثر أهميَّة بالنسبة لهم، طالما ظلت تلك القوى تردِّد، بل وليس نادراً ما تردِّد معها حتى الحركات المسلحة، تمسُّكها بـ “الحل السِّلمي” لقضيَّة السُّلطة!
لكن، لئن شكل هذا الدَّافع إغواءً دائماً لأولئك “الصقور”، فإن استجابتهم له لا تنطوي، في نهاية المطاف، على أيِّ قدر من الحكمة، كونها ستفضي، حتماً، ودون اضطرار للخوض في أيِّ حسابات منطقيَّة، معقدة أو بسيطة، إلى التَّيئيس، نهائيَّاً، وبصورة دراماتيكيَّة، من دعوة، وخطة، ومزاج الحلول السِّلميَّة، كما ستفضي، من ثمَّ، وبالضَّرورة، إلى مزيد من التقارب بين شقَّي المعارضة السِّياسيَّة والمسلحة. فعلى أولئك “الصقور” أن يقرِّروا، لأنفسهم أوَّلاً، وبوضوح تام، ما إنْ كان هذا هو ما يرغبون فيه حقَّاً وفعلاً!

***
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. الاستاذ الرائع كمال الجزولى كم عهدناك تمس كبد الحقبقة , وتكتب ماهو موضوعى بشكل يثير الاعجاب , وليس هناك مايقال عن مقالك هذا انه المقال الذى تود ان تقراء مثله فى الصحف اليومية رغم المثقبة وضيق الكسب الذى تعانيه صحف الخرطوم.

  2. الحكومة وحزب المؤتمر تحدد موقفهم تماما وكلما يحدث هو مراوغة لا اكثر لاطالة عمر النظام وللنظام وجهين المخفي مظلم جدا الفرج القادم اكاد اشتمه الله وحده يلطف !!!

  3. (حيث أكدت سـارة نقـد الله، الأمينة العامة لحزب الأمة، أنهم أوصدوا باب ذلك “الحوار” (الراكوبة؛ 15 يوليو 2014م)؛ ثمَّ جاءت تصريحات الإمام الصَّادق، رئيس الحزب، لتؤكد، في اليوم التالي مباشرة، وبأقوى العبارات، حديث أمينته العامَّة، واصفاً “الحوار” بأنه “تتحكم فيه الأهواء، والعشوائيَّة، والمواقف الفرديَّة”، ورافضاً، على حدِّ تعبيره، “أن يردفنا المؤتمر الوطني في عجلته”)
    لو يا أستاذ كمال راجي المهدي يكون عنده موقف واحد وقرار واحد تجاه الحوار سيخذلك المهدي وسيعود للحوار وقد بدأت بوادر ذلك تظهر منه ومن سارة نفسها وسيردفوه كما يشتهي (ونتمنى أن لا يكون ذلك في العجلة التي حكى عنها الفنان الراحل زيدان) .. فلا تستشهد بالمهدي ثانية فهو حيطة مايلة ونفخة زايلة … وورقو كلوا ختاهو مع عيالو القدمهم قدامو

  4. الحكومة وحزب المؤتمر تحدد موقفهم تماما وكلما يحدث هو مراوغة لا اكثر لاطالة عمر النظام وللنظام وجهين المخفي مظلم جدا الفرج القادم اكاد اشتمه الله وحده يلطف !!!

  5. (حيث أكدت سـارة نقـد الله، الأمينة العامة لحزب الأمة، أنهم أوصدوا باب ذلك “الحوار” (الراكوبة؛ 15 يوليو 2014م)؛ ثمَّ جاءت تصريحات الإمام الصَّادق، رئيس الحزب، لتؤكد، في اليوم التالي مباشرة، وبأقوى العبارات، حديث أمينته العامَّة، واصفاً “الحوار” بأنه “تتحكم فيه الأهواء، والعشوائيَّة، والمواقف الفرديَّة”، ورافضاً، على حدِّ تعبيره، “أن يردفنا المؤتمر الوطني في عجلته”)
    لو يا أستاذ كمال راجي المهدي يكون عنده موقف واحد وقرار واحد تجاه الحوار سيخذلك المهدي وسيعود للحوار وقد بدأت بوادر ذلك تظهر منه ومن سارة نفسها وسيردفوه كما يشتهي (ونتمنى أن لا يكون ذلك في العجلة التي حكى عنها الفنان الراحل زيدان) .. فلا تستشهد بالمهدي ثانية فهو حيطة مايلة ونفخة زايلة … وورقو كلوا ختاهو مع عيالو القدمهم قدامو

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..