في حضرة من أهوى (2) سلسلةٌ من حَلقاتٍ أرصدُ فيها بعضاً من جوانب مشروع الكابلي الغنائي العظيم …
مهدي يوسف إبراهيم

…………………..
توطئةٌ أولى:
” الجانبُ الإبداعي جانبٌ مهمٌ لأبعد الحدود، وما ذلك إلَّا لأن الفن يخاطبُ وُجدان الإنسان، ويستمد الفن قيمته من قدرته على الاقناع من خلال التأثير “
” عبدُ الكريم الكابلي “
…
توطئةٌ ثانية
“ومنذ أن تفتَّحت مداركي على هذه الحياة، أدركت عميقاً أنَّ الفن الخيّر كان وراء تطوُّر البشرية”
“عبدُ الكريم الكابلي”
…………………..
توطئةٌ ثالثة
أشتاقُ لقاءك يا ربي في لهفة صوفيٍ ولهان
روحي لسمائك تسبقُني أما قيدي و الجسمُ الفان
سيعودُ زهوراً و وروداً في تُربك مرسمِك الألوان
“عبدُ الكريم الكابلي”
بعد عودته من “مروي” في العام 1958 التحق “الكابلي” بلجنة الألحان والنصوص في الإذاعة السودانية وكان يرأسُها المذيعُ العظيم “أبو عاقلة يوسف”. هناك التقى “الكابلي” بلفيفٍ من الأدباء الكبار مثل “محمد المهدي المجذوب” و”مصطفى سند” وغيرهما. وهنا لا بد من الإشارةٍ إلى شيء مهمٍ في حياة الكابلي – وفي حياة كل مبدعٍ جاد -وهو حرصُه على أن يحيطَ نفسه ببطانةٍ مثقفةٍ تكونُ له بمثابة حاضنةٍ مبدعة.
حين كتبَ “تاج السر الحسن” قصيدة “آسيا وافريقيا” احتفاءً بميلاد حركة عدم الانحياز وانعقاد مؤتمر باندونق بإندونيسيا قام “الكابلي” بوضع اللحنِ للقصيدة وبحث عمَّن يتغنّى بها. لكنَّ وفداً من وزارة الإعلام (وكانت تُسمّى حينها وزارة الإرشاد القومي) أقنعه أن يتغنَّى بها بنفسه أمام الزعيم عبد الناصر الذي زار السودان في العام 1960، سيما وأن “الكابلي” كان وقتها شديد الاعجاب بالزعيم المصري. وبالفعل صعد “الكابلي” خشبة المسرح القومي بأمدرمان وصدح:
عندما أعزفُ يا قلبي الأناشيد القديمة
ويطلُ الفجرُ في قلبي على أجنحِ غيمة
سأغني آخر المقطعِ للأرضِ الحميمة
للظلال الزرق في غابات كينيا والملايو
لرفاقي في البلادِ الآسيوية
للملايو ولبنادونق الفتية
منح لحنُ هذه الأغنية “الكابلي” ثقةً في نفسه. أيضا كان نصُ الأغنية الشعري جديداً ومختلفاً عمَّا كان سائداً آنذاك. الجديرُ بالذكر أنَّ “الكابلي” كان قد كتبَ قبلها قصيدة عن “عبد الناصر”:
أقبل الصباحُ مشرقاً وزاهر
يعلنُ الكفاح جندُه مزامر
حدّث البطاح عن زعيمٍ زائر
عزمُه رياح ملهمٌ وثائر
أسمرُ الوشاح واسمه ناصر
دخل “الكابلي” إذن الى حديقةٍ الغناء من البوّابة الكبيرة. بعدها استضافه الإذاعي الكبير “أحمد الزبير” في برنامجه الذائع الصيت “أشكال وألوان”، وفيه تغنّى بأوبريت “مروي” مع أغنياتٍ أخر. بعد ذلك قدّم من كلماته وألحانه أغنية “فتاة اليوم والغد”:
أي صوتٍ زار بالأمس خيالي
طاف بالقلب وغنّى للكمال
وأذاع الطهرَ في دنيا الجمال
وأشاع النور في جوف الليالي
وهي اغنيةٌ مهمةٌ كونها من أوائل الأغنيات التي تغنّت ببعض حقوق المرأة. أعقبت هذه الأغنية أغنيات خفيفة مثل: “أمير” و”سُكَّر ” و”الكل يوم معانا” و”زينة وعاجبانى”. في الستينات قدَّم “الكابلي” –وللمرة الأولى -ندوةً عن التراث. وقد شكّلت هذه الندوة بداية تعاطيه الجاد لقضية التراث. كما شهدت فترة الستينات تغنيه بنصوصٍ فصيحةٍ أخرى، فقدّم إلياذته الكبرى “ضنين الوعد” في العام 1964، وهي من كلمات “صديق مدثر”:
يا ضنين الوعد أهديتُك حبِّي
من فؤاد يبعث الحب نديَّا
إن يكن حسنك مجهول المدى
فخيال الشِّعر يرتاد الثُّريَّا
وهي القصيدة التي استفزَّت “وردي” فظل يلحّ على “صدّيق مدثر” كي يمده بنصٍ فصيح حتى وضعَ يده على أغنية “الحبيب العائد”. بعد “ضنين الوعد” تغنّى الكابلي برائعته الكبيرةِ “إني أعتذر” للكبير “الحسين الحسن”:
حبيبة عمري تفشى الخبر
وذاع وعمّ القرى والحضر
وكنتُ أقمتُ عليه الحصون
وخبأتُه من فضول البشر
مشروع الكابلي الفني:
للإلمام بمشروع “الكابلي” الفني، لا بدَّ من التوقُّف عند عدَّة نقاط مهمَّة. ولا أطلقُ هنا كلمة “مشروع” اعتباطاً؛ ففنَّانون مثل “الكابلي” و”وردي” و”عركي”، لم يمارسوا الغناء دون أن يَكمُن وراءه مشاريع إبداعية محدَّدة وراسخة، سخَّروا لها مواهبهم العظيمة.
أوَّلاً: الكابلي شاعراً
………
كان مدخلَ الكابلي للغناءِ عبر بوابةِ الشعر، فكتب “يا زاهية قلبي الشلتي جيبيه”، التي تغنَّى بها عبد العزيز داؤود. ولأنّ وجدانَ الرجل وذاكرته استندا على قراءاته الغزيرة في الأدبَينِ العربيِّ والعالمي؛ فقد حرص طوال حياته على التغنِّي بالنُّصوص العالية الجودة، فصيحةً كانت أم عامِّيَّةً، سودانيةً كانت أم قادمةً من فجاج العالم العربي الأخرى. ولعلَّه من الفنَّانين القلائل الذين لم يتغنوا يوماً واحداً بنصٍّ شعريٍ غثٍّ على الإطلاق.
تغنّى “الكابلي” بنصوصٍ مِن نظْمه وألحانه، فكتب، مثلاً، “أوبريت مروي”:
_فيكِ يا مروي شفت كلّ جديد
فيكِ شفت عيون لعبو بيّ شديد._
وكتب النشيد العظيم “فتاة الأمس والغد”:
_أيُّ صوتٍ زار بالأمس خيالي
طاف بالقلب وغنّى للكمال
وأذاع الطهر في دنيا الجمال
وأشاع النُّور في سهد الليالي._
وتغنَّى كذلك بروائع “مرايا” و”مشاعر”، و”زمان الناس” و”ليس في الأمر عجب” وغيرها، وكلها نصوص من نظم الكابلي نفسه كما أسلفت. كذلك نفح الرجل بعض زملائه بشيء من أعماله ملحَّنة، فقدّم “يا زاهية” للكبير “عبد العزيز داؤود” وقدّم للكبير “أبو عركي البخيت” رائعة “مرسال الشوق”:
_مرسال الشوق يا الكلك ذوق
طوف بي الحبَّان في كل مكان
قول ليهم شُفنا “جبل مرَّة”
وعشنا اللحظات حب ومسرَّة
بين غيمة تغازل كل زهرة
وخيال رُمَّانة على المجرى._
ولا أدري إلى الآن، كيف التقط خيال الكابلى الوثَّاب صورة خيال الرُّمَّانة على المجرى ليعتقلها في نصٍّ شعرى!
وذات رحلة ٍفنِّيَّة ٍإلى مدينة “ود مدنى” لاحظ “كمال ترباس” أنَّ الكابلي كان يجلس وحيداً، فلم يعكِّر عليه صفْوه، إذ أدرك بحاسَّته أنَّ الرجل القامة يقع الآن تحت تأثير إلهامٍ ما. بعد دقائق أمسك الكابلي بالعود وبدأ يترنَّم:
_بريدك والريدة باينه في عينيّا
بريدك والشوق غمرني وفاض بيّا
ما إنت شبه البترادو
تصلح الكانو اتعادو
قول ليَّا بس كيفن ألقاك
قول ليَّا آه قول ليَّا._
فالتقطها “ترباس” وصارت من أغنياته العظيمات. كما قدَّم لمحمد أحمد عوض أغنية “عشَّمتيني في حبك ليه”، وهي أغنيةٌ كتب مطلعها “محمد أحمد عوض” نفسه وأكملها له الكابلي.
…
يتبع