الحانه ظلت مدرسة لحنية .. وداعاً (الكابلي) … صاحب الومضة المشرقة

رحلته بدأت عام 1958 بمروي عمل كاتباً قضائياً بالمحاكم السودانية
ارتبط بالتراث الغنائي وظل مرجعاً فيه
1960 كانت انطلاقته بالمسرح القومي.
آسيا وأفريقيا قدمته للعالم العربي
تغنى بثلاث لغات في إيطاليا عام 1987
كتب أشعاراً غنائية ومقالات بالصحف..
تغنى بفصيح الغناء ودارجه
87 أغنية ستظل معلماً من معالم عبقربته
كتب: صلاح الدين عبد الحفيظ مالك
تقديم
لا تحدث القساة عن هواك
فإن الذي يحس ضعفك ليعتريك خوفاً
هو منال قلوب العاشقين ولهاً
غادرنا من دنيا الممر الى دنيا المقر الأسطورة الفنية والإنسانية محمد عبد الكريم عبد العزيز الكابلي والذي ظل لسنوات يقيم بأمريكا بعيداً عن وطنه الذي أحبه.
في حياته رحلة الصبر والشقاء على مشروعه الضخم والذي أراده أن يكون ما بين كتابة الشعر وتلحينه والغوص في بحر الغناء السوداني قديمه وحديثه زائداً العمل على تجويد فنه بالقراءات العميقة في التراث العربي والسوداني
بسواكن وفي العام 1933م كان ميلاده لأسرة ميسورة الحال والأحوال لوالد تخرج من كلية غردون التذكارية وعمل موظفاً في كل من بورتسودان والأبيض والخرطوم كعادة موظفي الدولة في ذلك الزمان.
داخل حوار إذاعي أجراه معه ذو النون بشرى في العام 1986م ذكر أنه كان لصيق الصلة بوالده وهو ما أنتج فيما بعد حب القراءة وشغف المعرفة وذلك من خلال مكتبة والده المكتنزة بأمهات الكتب..
يذكر أن والده كان ذو صلة بتجمعات المثقفين في السودان في عقود الثلاثينيات والأربعينيات، نشأ الكابلي في جو من المعرفة بل والتساؤلات القرائية حول ما كان يقرأه، فمن سواكن الأولية الى بورتسودان المتوسطة كان المعلمون أصدقاء والده وهم الذين أسهموا فيما بعد بوافر المشاركة في الحياة الأدبية والسياسية وكان منهم الكاتب الصحفي والمؤرخ محجوب عمر باشري والسياسي والمعلم والشاعر صاحب النشيد الوطني وعضو أول مجلس للسيادة أحمد محمد صالح، وأول مدير للثقافة بوزارة الاستعلامات والعمل الأستاذ أمين زيدان، ففي جو كهذا كانت بداياته التي لم يكن من بينها الغناء، بل القراءات والاطلاع بتفوق واضح أكمل الكابلي المرحلة المتوسطة وكانت وجهته نحو الثانوي الذي اختار فيه دراسة التجارة والحسابات بمدرسة أمدرمان التجارية.
من هنا بدأت حياته الفنية في بدايات ممعنة في الرصانة والجدية
شكل العام 1953 نقلة في حياته فقد التقى بالفنان حسن عطية بأمدرمان فكان تشجيع حسن عطية له دافعاً للغناء وسط زملائه الطلاب
سنوات من الغناء دون أن يدر بخاطره أنه سيصبح يوماً ما أحد صناع الطرب والغناء في السودان حتى أتى العام 1959م حين عمل بالمصلحة القضائية كاتباً قضائياً ونقل على الفور الى مدينة مروي والتي على حد قوله أفادته كثيراً لجوها الهادئ وعدم زخمها الصاخب.. بدأ الغناء مقلداً أحمد المصطفى وحسن عطية والتاج مصطفى الذي قال عنه أن صوت التاج مصطفى هو صوت من الأصوات النادرة في تاريخ الغناء ليس في السودان فحسب، بل في كل العالم العربي.
قضى الكابلي ثلاث سنوات بمروي كان الغناء فيها لمجموعة الموظفين هناك ومنها كتب أوبريت مروي الذي بدأ به كفنان، تشاء الأقدار أن يأتي الى الخرطوم للعمل في وظيفته ككاتب قضائي وحينها سكن بحي الموردة الأمدرماني جوار الفنانون عبد الدافع عثمان وأولاد أبو شلة فيصل وبهاء الدين فكانت ليالي الأُنس والطرب تارة بمنزله وتارة بمنازل أبناء الحي
شكل زواج لاعب المريخ ابن حي الموردة سليمان محمد أحمد انطلاقة الكابلي في دنيا الغناء فتغنى بأغنيات لفتت إليه أنظار محبي الغناء
عن طريق صديقه القاضي ورئيس القضاء فيما بعد عثمان الطيب هاشم التقى الكابلي باعضاء الندوة الأدبية بأمدرمان بحي البوستة وهم عبدالله حامد الأمين والشعراء تاج السر الحسن ومحمد المهدي المجذوب وصلاح أحمد إبراهيم ومن هنا يبدأ فصلاً جديداً في حياته عنوانه التفرد والانطلاق نحو سماوات الغناء والشهرة ليس في السودان فحسب، بل في كل البلدان العربية.
أعجب أعضاء الندوة الأدبية ليس بصوته وأغنياته، بل لثقافته ومعرفته للتراث السوداني والعربي.
داخل صحيفة السودان الجديد عدد يوم 28 يوليو1960م ذكر محرر صفحة المنوعات بأن الفنان الكابلي قدم محاضرة الأسبوع بالندوة الأدبية وكانت بعنوان أغاني الحماسة في السودان.
تمكن منه حب وعشق التراث الغنائي السوداني وهو ما جعله يغني أربعة عشر أغنية تراث سوداني بدأت بأغنية مناحة (بنونة بت المك نمر)
ما دايرة لك الميتة أم رماداً شح
دايراك يوم لقا وبدميك تتوشح
ساعة الموت والعجاج يكتح
وذلك في العام 1960وانتهت التراثيات عام 2000 بأغنية عمر الطيب الدوش سعاد
دقت الدلوكة قلنا الدنيا ما زالت بخير
أهو ناس تعرف وتنبسط داخل أغاني التراث التي قدمها كانت جموع المهتمين بالغناء في دهشة من طريقة أدائه لها من غير الصورة اللحنية التي كانت داخل ذاكرة أسماعهم وخير دليل على ذلك أغنية الحسن صاعقة النجم
داخل الندوة الأدبية كانت المصادفة التي جعلته يصل سريعاً لمصاف الفنانين الكبار فكان أن كتب الشاعر محمد المهدي المجذوب أغنية المولد في نهاية العام 1959 وعلى الفور قام بتلحينها وقدمها عبر الإذاعة السودانية
وجدت أغنية المولد رواجاً غير مسبوق فكانت تذاع طيلة أيام احتفالات مولد المصطفى عليه السلام والصلاة
شجع نجاح تجربة أغنية المولد للشاعر محمد المهدي المجذوب صديقه الشاعر تاج السر الحسن على كتابة قصيدة (آسيا وأفريقيا) والتي أصبحت واحدة من معالم شهرة الكابلي وشهرة الغناء السوداني.
من مصادفات هذه الأغنية أنها كتبت في أغسطس 1969 وكان أن استمع اليها محمد عامر بشير فوراوي من داخل الندوة الأدبية وهو حينها كان يعمل مديراً لوزارة الإعلام، وعلى الفور اتصل بوزير الإعلام طلعت فريد الذي صادق عليها لتغنى في حفل يحضره الرئيس المصري عبد الناصر وذلك يوم 17 نوفمبر1960 يقول الكابلي عن تلك السنة 1960 إنها كانت سنة الانطلاقة لشخصي إذ تغنيت أغنيتين لاقتا رواجاً وشهرة وهما ليلة المولد وآسيا وأفريقيا.
من غرائب رحلته الفنية أنه بدأ بالغناء بعيداً عن الغناء العاطفي، بل بدأ بأغنيات ذات مضامين مختلفة وهي أوبريت مروي وليلة المولد وآسيا وأفريقيا
انطلاقته خارج السودان كانت في العام 1961 في رحلة صحب فيها شرحبيل أحمد والتاج مصطفى الى تونس حيث تغنى بأغنياته القديمة وأضاف اليها أغنية لحن الخلود للشاعر أبي القاسم الشابي
في مسيرته الفنية تعاون مع عدد من الشعراء وهم عبدالعزيز جمال الدين في (آه لو تصدق)، وصديق مدثر في (ضنين الوعد) وكذلك (فتاة الوطن)
أي صوت زار بالأمس خيالي
طاف بالقلب وغنى للجمال
إنه صوتي أنا زاده العلم سنا
وكذلك الحسين الحسن في رائعته (حبيبة عمري)، وتوفيق صالح جبريل في (كسلا)
كسلا أشرقت بها شمس وجدي فهي الحق جنة الإشراق
داخل أغنياته التي قدمها خلال ستين عاماً تبرز حالة اهتمامه بفصيح الغناء وذلك من خلال السبع وعشرون أغنية قدمها بدأت بليلة المولد عام 1959 واستمرت حتى قبل سنوات وهي بالترتيب (ليلة المولد وآسيا وأفريقيا وضنين الوعد) للشاعر صديق مدثر وحبيبة عمري وفتاة الوطن
أما فصيح الغناء للشعراء العرب فكان اختياراً عبقرياً للغاية انظر لاختياراته بدأ بالشاعر أبو فراس الحمداني (معللتي بالوصف)، زائدا رائعة عباس محمود العقاد (طائر الهوى)، أما شعراء القرن العشرين وعقوده الأولى فكان الشاعر المصري علي محمود طه وكان أن تغنى له أغنية (الجندول)،
من شعراء العصر الأندلسي فقد تغنى بأغنية (عشق العمر) للشاعر المعتمد بن عباد، ومن الشعراء السودانيين الذين ارتبط بهم غناء كان المرحوم الشريف حسين الهندي في رائعته (أوبريت سودانية) الذي لاقى رواجاً وشهرة خارج السودان قبل أن يتم تسجيله بعدد من الفضائيات العربية.
بلغت جملة الغنائيات التي تغنى بها سبع وثمانين أغنية شكلت شهرته وخلوده وهي رحلة لم تكن تتم إلا بصبره وتحمله للكثير من المعاناة حتى ينجز مشروعه الغنائي ومن ذلك أنه رفض العمل ببورتسودان والقضارف اللتان كانتا من المدن التي أشار اليهما أقرباؤه وأصدقاء والده وذلك في الخمسينيات وفضل العمل بعيداً عن الخرطوم حتى يتعلم العزف على العود ويكتب الشعر ويلحن الألحان الخاصة بكتاباته.
دليل آخر على صبره هو عدم الالتفات للأصوات والأقلام التي انتقدته في بداية مشواره الفني ومن ضمنهم الصحافي حسين عثمان منصور الذي كانت له مجلة هي الصباح الجديد والتي كانت تكيل الانتقاد تلو الانتقاد له
لم يجد الكابلي طريق الفن ممهداً ومفروشاً بورود الاستقبال، بل وجد أشواكاً ومتاريس أجدها حتى كبار الفنانين حين ظهوره كفنان ومن ضمن هؤلاء كان فنان كبير رفض ذات مرة جلوس الكابلي معهم بالإذاعة السودانية بحجة أنه لا توجد له تسجيلات بالإذاعة، داخل أغنيات الحقيبة كان وجوده فاعلاً للغاية إذ تغنى بأغنيات ظلت محفورة في ذاكرة المستمعين رغماً عن سماع المستمعين لها قبل أن يتغنى بها وذلك للطريقة الفريدة والمدهشة التي كان أداؤه لتلك الأغاني يجعلها وكأنها جديدة النظم واللحن.
ومن ذلك رائعتا خليل فرح الأولى تم دوره ودور فات الحلة نور زي بدر التمام والثانية نحن ونحنا الشرف الباذخ دابي الكر شباب النيل
وربما كانت أغنية في الضواحي وطرف المدائن أقل أداء من بقية أغنيات خليل فرح التي أجادها والسبب أن أداءه لها كان في مرحلة سابقة لتطور أدواته الفنية.
في واحدة من فرائد تجاربه الثرة كانت أغنية (بت ملوك النيل) التي قام بأدائها بصورة أغرب للحداثة من شكلها الحقيبي الذي وضعه لها الشاعر الحقيبي سيد عبد العزيز أضاف الكابلي لرصيده الغنائي تجربة أخرى وهي غنا الحقيبة لأغنيات منسية ومن ضمنها (دمعة الشوق كبي حكم حبي أرعى نجم الليل وحدي)، وكذلك أغنية (جوهر صدر المحافل) التي جعلها تمشي بطريقة أدائه لها.
لم ينسَ الكابلي الاهتمام بتقديم ما لديه من معارف تراثية فكان جهاز التلفزيون في السبعينيات والثمانينات حفياً به إذ قدم برنامج تراثيات الذي استضاف فيه رموز غناء الحقيبة وهم أحمد عبد المطلب حدباي وإبراهيم العبادي وسيد عبد العزيز وعبيد عبد الرحمن ومحمد البشير عتيق
وداخل هذا البرنامج أمكن التعرف على الظروف التي جعلت غناء الحقيبة يظهر للوجود زائداً إفاداتهم الشخصية التي ستظل وثيقة نادرة للتعرف على بدايات تشكل الغناء السوداني وخروجه من منظومة الحقيبة.
جانب آخر من حياته الفنية كانت رحلاته الفنيه الخارجية التي كانت واحدة من إبداعات شتى في مسيرته الفنية وهي رحلات بدأت في العام 1959 بتونس وانتهت بأمريكا التي لاقى فيها الذي لا مفر منه.
تبرز أكثر الرحلات التي كانت أكثر شهرة في حياته وهي بإيطاليا في العام 1987 وهي التي بذل فيها مجهوداً خارقاً للغناء بالعربية الفصيحة والإنجليزية والإيطالية التي عكف مع طاقم السفارة السودانية بروما على معرفة ما كان من كلمات الأغاني التي يود غناءها.
بجيبوتي والصومال التي زارها برفقة كل من الموسيقيين حسن خواض وحسين جاد السيد وعز الدين علي حامد وأحمد حامد النقر والفنانون صلاح بن البادية وعثمان الشفيع كانت فرصة مواتية لشخصه للتعرف على الفنون بتلك الدول وتحديداً فن الغناء فكان أن كتب مقالاً ضافياً حول هذه الرحلة بصحيفة الأيام تناول فيه ما يمكن أن يعزز التعاون السياسي بين الدول لاحظ مدى تقدم استيعابه للفنون ودورها في العلاقات بين الشعوب..!
داخل علاقاته الخاصة ارتبط أكثر من غيره من الفنانين بالسفراء والدبلوماسيين فكان منهم هاشم عثمان وزير الخارجيه الأسبق والسفير مصطفى مدني والسفراء عبد المجيد حاج الامين وإبراهيم طه أيوب وزير خارجية انتفاضة أبريل ومن ضمن ما كان حياة أدبية وفنية ارتبط بأصحاب الاهتمامات الأدبية وتحديداً الآداب العربية والإنجليزية وهم علي المك أستاذ الترجمة بجامعة الخرطوم وإبراهيم أحمد عبد الكريم صاحب الباع الأكبر في حفظ الشعر العربي وحمدي بدر الدين صاحب برنامج فرسان في الميدان
يحكي في حوار أجرته معه الصحافية النابهة أميمة عثمان أن هذه اللقاءات فتحت آفاقه على الشعر العربي وأوزانه وبحوره مما جعله فيما بعد يختار قصائد ذات معانٍ شاهقة الدلالات.
تعتبر قصيدة (نالت علي يدها ما لم تنله يدي) للشاعر الأموي يزيد بن معاوية هي واحدة من القصائد التي جعلته يعتلي صدارة الفنانين العرب في التغني بالأشعار الفصيحة أكثر من غيره من العرب.
وحتى وفاته الفاجعة أول أمس فصول هي كتاب اسمه أسطورة الغناء في السودان ويكفي أنه سافر ذات مرة لمدينة شندي في العام 1978م ليلتقي بامرأة تحفظ أغاني التراث وخرج منها بأغنيات لفتت الأنظار لأغاني التراث ومنها (متين يا علي تكبر تشيل حملي) وما هو الفافنوس ما هو الغليظ البوص.
داخل تجربته الخاصة بأداء أغنيات اللغة الدارجية تبرز أغاني مثل (وحياة عيني سكر وأحلى نغم في منظر)، وكذلك (زينة وعاجباني تعجب كل شاعر).. وغيرها ما جعلها خالدة خلود جريان النهر
كتب مرثية طويلة النظم في رثاء بروفيسور محمد عمر بشير وهي التي كانت يتم بها اختتام سنوية الاحتفال للبروفيسور محمد عمر بشير
هاجر الكابلي للسعودية في ثمانينيات القرن الماضي فظل منزله قبلة للسودانيين طيلة سنوات بقائه بها.
قدم أغنية (سعاد) التي وجدت اعتراضات من قبل لجنة النصوص والتي تجاوزها بتعديل جزء منها.
داخل هذه الأغنية أدخل الكابلي صوت سوط العنج الذي يضرب به البطان في جزئية وركزت للألم عشان البت سعاد
وفاة لأستاذه حسن عطية قدم الكابلي في العام 2007 إلبوماً غنائياً خاصاً بأغنياته بصورة جعلته يكبر في عيون محبي الغناء
قضى الكابلي السنوات العشر الأخيرة من حياته ما بين الخرطوم وأمريكا بصحبة كريماته وصهره الأستاذ عمر الجزلي ورغماً عن اعتلال الصحة فقد ظل يقظ الذهن صافي الابتسامة وضاح المحيا دون شكوى أو تذمر وهي شيمة العظماء أمثاله.
يذكر أن الكابلي قد منح درجة الدكتوراة الفخرية من جامعة الخرطوم زائداً اختيار هدية الأمم المتحدة لشخصه كسفير للنوايا الحسنة.
ألا رحم الله الفنان الكابلي رحمة واسعة وألهم آله وذويه الصبر والسلوان.
اليوم التالي