لقاء.

قد يكون فى الافتراق تلاق، ثمة أشخاص لا نلتقيهم إلا بمفارقتهم جسداً ، فالروح هى التى بإمكانها أن تجعل من الفراق جسراً للتلاقى، فبها نتناجى دون رقيب، نتعاتب ونتعارك ونتصافى دون جودية ولا حكم قضائى ، نقول لبعضنا ماعجزت أجسادنا وأعضاؤها عن قوله، من خلالها نتحرر من الكذب والمجاملة. لا رجل نضعها فوق الأخرى عجرفة وغرورا، ولا أيد نشبكها مع بعضها البعض حتى تتعرق حرجا وخجلا.
مناجاة الأرواح وأحاديثها مع بعضها البعض لا يقطعها دخيل، ولا صبى يقتحم المكان بغرض تقديم فناجين القهوة وكأسات المياه ، ولا يتخللها اعتزار بهدف الرد على مكالمة هاتفية سمجة. هى لا تتأثر بانقطاع التيار الكهربائى ،ولا توقف انسياب التيارات الباردة الصادرة من أجهزة التكييف، ولا حتى لبرهة ، من خلالها نزفر دخان شهقناه من سيجارة ،وتعلقت تلك السيجارة فى فضاء إختار حيزه ما بين الأصابع والشفاه.
إن التقاء الأعين ، ومصافحة الأيدى، والجلوس على مقربة، هو لقاء فيزيائى. الوجود الحقيقى هو الوجود الروحى. كم من الناس جالسناهم، وحادثناهم بلا حس أو شعور، وبذهن مشتت، ذلك لأنهم لم يتربعوا فى أعماق أرواحنا بما يكفى. لو فعلوا، لحادثناهم بأعين مغمضة، ولما اهتممنا بترتيب هندامنا وتصفيف شعرنا ولا نوع العطر الذى ندلقه على اجسادنا، ولما ذوقنا أحاديثنا ونمقناها حتى نتحاكى مع الملائكة فى الطبع والتصرف.
كل الأشياء الميكانيكية لا تبادر بالعطاء قبل أن تأخذ، حتى الجسد، آدميا كان أم حيوانيا ،إن لم تطعمه وتسقيه لن يتحرك، وكذلك المركبات، قاطرات وسيارات وطائرات وغيرها، إن لم تقم بتغذيتها وقوداً وزيتا ، لن تبارح مكانها. وحدها الروح من بإمكانها أن تعطى وتجزل العطاء دون مقابل، ودون تغذية استباقية. فالأرواح تستمد طاقتها من زاتها، وتتواصل دون هدف مادى محسوس .
لكى نلتقى جسداً بشخص بيننا وبينه آلاف الأميال لابد أن نستغل طائرة. وحدها الأرواح التى لاتحتاج إلى مركبة تستغلها، ولاتزكرة سفر وترحال،ولا تأشيرة خروج ودخول، ولا تصاريح من أجهزة الأمن. إنها الوحيدة التى لاتخضع للفحص الجمركى ولا للقوانين أو الحواجز أو العوائق، هى لا تأبه للطبيعة، إذ لا مطر يوقفها ولا سيل أو حريق.
إن الأرواح المتآلفة لا تتباعد، بل تحرس بعضها فى غياب الأجسام ، تتآنس و تضحك بلا صوت، وتلوم دون جبين متقطب ، وتتعاتب دون حروف مسمومة، ولكم من الأحرف ما تفوق سمومها ما تنفثه الأفاعي.
إن الغائب ليس من غاب بجسده، بل من ذبلت روحه، وتلاشت فى فضاءات النسيان .
قبل الشروق:-
” وسافر بى عذابو هناك
صنقر فوق سحاب الرى.
بنيت فى الموج قصور آمال
ومديت للرهاب إيدي.
وشديت سرجى فوق الريح
عشان القاك .
بدور اطوى المسافات طى.”
( ابوقطاطى).
محمود، ، ، ، ، ،
[email][email protected][/email]