3 ساعات 32 دقيقة مضت

الخرطوم – الزين عثمان
كأنها باريس وليست الخرطوم التي نعرفها وتعرفنا، تخلع المدينة شبه الصحراوية عنها رداء الشمس، وترتدي ذرات أمطارها في ديسمبر، بدا الأمر مختلفاً، جعل المواطنين يطلقون عباراتهم هكذا (الخرطوم الليلة مركبة مكنة باريس)، المدينة تقضي يومها أمس في حالة من المحبة التي أحاطت بشارع النيل إحاطة السوار بالمعصم، لدرجة إن ضاع منك أحدهم أو إحداهن نهار أمس فما عليك سوى التوقف في محطة سليل الفراديس النيل، ولم تنس الخرطوم أن تعيش يوما للحب والثورة في آن واحد.
هدوء الطقس الخرطومي وحالة البشر التي كست الوجوه في صباحات الأمس ما كانت لتمضي دون أن تجد ما يعكر صفوها، وكأن الحلو في هذه البلاد قدره ألا يكتمل، إن كان طقس باريس الهادئ قد عكرته الانفجارات الداعشية الشهر الماضي، فإن باريس في نسختها الخرطومية تنفجر بأسطوانات الغاز الغائب عن البوتاجازات والميادين رغم الوعود الحكومية بإيجاد حلول ناجعة للأزمة منذ أسبوعين.
بدا شارع النيل أمس يطبع ذاته بخصوصية الطقس، يرسم العابرون والعابرات فيه يومهم بشكل مغاير، تجلس ست الشاي الأربعينية في بنبرها وهي تنفخ على الفحم تناديه للاشتعال، تبدو كمن يتجاوز أزمة الغاز ويشرع قلبه للرزق المنهمر في اليوم الاستثنائي، تجيب على سؤال (كيف الحال) بـ(يا ريت لو تستمر الأمور كدى) فعلى غير العادة تستقبل مقاعدها المؤجرة من المحلية جالسين وجالسات في منتصف النهار، وهي العالمة بأن لا شيء أتى بهم إلى هنا غير هذا الطقس المختلف، طلاب وطالبات الجامعات، كمن ينتظرون مثل هذا التحول، تركوا كل شيء وجاءوا فقط إلى شاطئ النيل للاستمتاع بالجو، مكتفين بترديد عبارة (المحاضرات ملحوقة لكن البضمن لينا شنو تجدد هذا الطقس)، هنا إن هبت رياح سعدك فاغتنمها، وهو ما بدا في استغلال الكثيرين للفرصة، فستات الشاي الجالسات على النيل حققن فائدة كبرى في صباحات الأمس من خلال ازدياد الإقبال، وكعادتهن رددن العبارة السودانية الأثيرة (الحمد لله الأمور ماشة).
لكن في ذات الخرطوم، ثمة محطات أخرى يتوقف عندها الحال ويخرج أهلها يسبقهم احتجاجهم، لا جديد يذكر في الخرطوم أمس، في ما يتعلق بتسرب الاحتجاجات من أسطوانات الغاز الفارغة التي تحولت أمس من الميادين إلى شوارع الزلط، فعلى الرغم من الجدول المنشور في وسائل الإعلام حول توافر السلعة بسعرها الرسمي، لكن ما تقوله الحكومة يناقض ما يحدث على أرض الواقع، تغلبهم أمس حالة صبرهم، أهل الفتيحاب يخرجون بأسطواناتهم إلى الشارع الرئيس، ويغلقونه أمام السيارات، فلا يمكن أن تمر ونحن نلوك المر، هكذا كان تفسيرهم لحالة الخروج والاحتجاج، تقول إحدى السيدات (دا جو ملاح شرموط بعصيدة بس يشدوه في شنو؟) تبدو السيدة غير مهتمة بهذا الطقس المنعوت عند البعض بالجميل، حين تكمل بأن الواقع الضاغط يقتل أي إحساس داخلي بالجمال، وتكمل كمن يريد أن يحسم الجدل (يعني نقاط المطر ده حيملأ لي أنبوبتي القاطعة ليها عشرة يوم بالغاز؟).
وطقس الخرطوم الساخن يأبى الرحيل ويعاود أمس عبر قادمين من خارج حدود الولاية، يتحرك وفقاً لمؤشر السدود، حين يقف أهل أمري المهجرين بفعل قيام سد مروي تحت ذرات المطر، ويلاطفهم الجو لكن الملاطفة لم تكن لتنسيهم المشكلات الراهنة هناك، يقفون محتجين على ضعف الخدمات وعلى المشاكل المتعلقة بالموسم الزراعي، وسم العقارب، والأمصال الغائبة، وخروج أكثر من 90% من المزارعين من دائرة الإنتاج.
وتقول إدارة الأرصاد إن انخفاض درجات الحرارة سيستمر في الأيام القادمة أو طوال الأسبوع وهو ما يعني أن الخرطوم موعودة باستمرارية الحالة الباريسية واعتدال الطقس، وهو ما يعني أن من الممكن أن تستمر حركة البيع والشراء في شارع النيل وأن تزيد ست الشاي من الفحم المستخدم في قلي البن في تلك المنطقة وأن تستمر جحافل المحتفين بالطقس في تلك المنطقة وأن يواصل النيل احتفاءه بالقادمين إليه، لكن اعتدال الطقس لا يبدو ذا جدوى في حال استمرت المعاناة في الحصول على غاز الطبخ ودون أن يجد مهجرو السد الإنصاف والعدل من مباني الحكومة التي تشارك الشعب ذات شارع النيل
اليوم التالي