أهم الأخبار والمقالات

محمد ناجي الاصم يكتب (الثورة معركة الجيل) ( 2)

تتداخل عوامل كثيرة في قضية القطاع الأمني في السودان اليوم لتجعلها من أكثر قضايا الانتقال تعقيدا ، والتي تقف أمام مشروع التحول الديمقراطي وبناء الدولة في السودان ، ففي السودان ينتشر السلاح بكثافة في القرى والأرياف ، تغيب بصورة فاضحة سلطة الدولة في توفير الأمن ويعتمد الناس بصورة كبيرة على أنفسهم في توفيره ، ليأخذ انتشار السلاح تبعا لذلك بعدا آخر مرتبط بالقبيلة ومناطق نفوذها وقوتها ، وستكون هذه من المعادلات الصعبة في صياغة العقد الاجتماعي للسودانيين ، أن يقوموا بالإذعان لسلطة الدولة حينما تصبح موجودة وبعد إيمانهم بقدرتها على توفير الحماية لهم .

لا سبيل لتحول ديمقراطي حقيقي وكامل في السودان بدون عملية ضخمة لإعادة هيكلة القطاع الأمني تضم كل المكونات الحاملة للسلاح من قوات نظامية وحركات مسلحة لتنتج قوات مسلحة سودانية واحدة ، بعقيدة جديدة تبنى على كونها قومية تعبر عن التنوع السوداني في كافة هياكلها ودرجات القيادة بها ، مهنية ملتزمة بأدوارها المنصوص عليها في الدستور ومستقلة غير منحازة أيدولوجيا أو سياسيا أو اجتماعيا وتعمل قانونا تحت طوع المؤسسات المدنية الديمقراطية ، كما أن إعادة هيكلتها لتكون حامية لحقوق الإنسان محترمة للديمقراطية ولمبادئ القانون ولاتقوم هي أو أفرادها بانتهاكها كما حدث في تاريخنا يجب أن يكون من أهم ركائز عملية العدالة الانتقالية التي ننتظر بدايتها .

وذلك بالطبع لن يحدث مالم تقوم القوى السياسية والاجتماعية بنفس الالتزام ، فلم يحدث عبر تاريخ السودان أن انقلبت القوات المسلحة على الديمقراطية بدون إيعاز أو تحشيد من حزب أو منظومة سياسية ، في ١٩٥٨ ، ١٩٦٩ ، وفي ١٩٨٩ م ، هذا الاستخدام يجب أن يجرّم وللأبد ، العمل السياسي والخلايا الحزبية داخل القوات المسلحة أو أي قوى نظامية أخرى كلها مسائل يجب أن تحكى في لجان حقيقة العدالة الانتقالية لتأخذ منه الأجيال الدروس والعبر، كما يجب أن توضع لردعه أقسى القوانين وأشدها عقوبة في وجه كل تنظيم سياسي يسعى لفرض رؤيته السياسية على الجماهير بالقوة وباستخدام قواته المسلحة ، وأعتقد أن ثلاث تجارب مريرة يجب أن تكون كافية لتعي قوانا السياسية التي ارتكبت تلك الجرائم الدرس في خطورة استخدام مؤسسة الجيش القومية في اللعبة السياسية وما خلفه ذلك من فظائع نتحملها و نضطر للتعامل مع عواقبها اليوم .

إن المضي نحو ديمقراطية جديدة في السودان مع ما تقتضيه من اجراءات وفعاليات انتخابية بدون بداية عملية وحقيقية لعمليات إعادة هيكلة القطاع الأمني سيكون حكما مسبقا عليها بالفشل ، ففي عصب أهداف الفترة الانتقالية تكمن القضية بل هي من أهم أولوياتها ، ولا يمكن تصور دولة ديمقراطية لا تسيطر مؤسساتها المدنية المنتخبة على قطاعها الأمني والسؤال الذي ربما يدور في رؤوس القراء هو ما الذي سيدفع مكونات القطاع الأمني لذلك ؟

الأسباب كثيرة وعلينا أن نعمل على زيادتها وحشدها ، فأولاََ لا مخرج حقيقي سوى التوافق والتراضي الجماعي بين المكونات الأمنية والعسكرية نفسها وبين القوى المدنية على هذا الاتجاه ، وإلا فإنه مسار التصادم الحتمي في آخر الطريق ، ثانيا هذا الخيار هو الأمثل للجميع ، أن يجد الجميع مصلحته في عملية متوافق عليها ، مسنودة شعبيا وجماهيريا وتؤسس لعلاقة جديدة بين الشعب وقواته الأمنية ، ثالثا السلام ومايقتضيه من ترتيبات أمنية تنظر وتعالج مسألة أفراد وعتاد حركات الكفاح المسلح يكمن في صميم العملية ، رابعا وهو ما يجب أن يكون الأهم هو لأنه ما تقتضيه الثورة وعملية التحول الديمقراطي في السودان ، وحينها يكون الوعي بالقضية ومراقبتها والضغط من أجل تحقيقها هو واجب الجماهير وقواه الحية الجماعي والمستمر .

الانفلات الأمني ، التدهور الاقتصادي ، الشريعة الإسلامية والحفاظ على الدين ، فشل المدنيين وخلافهم ، فشل الأحزاب والحرب ، إحداها بعضها أو كلها ، استثناءات تمثل الوصفة الثابتة والمستديمة لأي انقلاب عسكري ولأي دكتاتورية ربما تحاول اختطاف سيادة الشعب ، هذه الاستثناءات لا شك سيحدث منها الكثير خلال الفترة الانتقالية وخلال الديمقراطية الوليدة وقد يتم صناعة بعضها قصدا للانقضاض على السلطة ، فكيف يمكن مجابهتها والتصدي لها ؟

في الحقيقة لا يوجد عاصم من الانقلاب أو العودة للدكتاتورية مجددا أقوى من الشعب ، وعيه ، وحدته ، تنظيمه ، وحركته المستمرة ، والدّيْن الذي أشرت إليه سابقا والذي يجب علينا اليوم أن نتحمله كجيل يقع هنا تماما ، فاستمرار الزخم الثوري وتماسكه هو الواجب ، استغلال كل مناسبة ممكنة في رفع الوعي والتنوير بالمخاطر ، تنظيم الجماهير لاسيما من الشباب والشابات في أجسام تعبر عنهم ، بناء النقابات الحرة والمستقلة وتحالفاتها المتماسكة ، لجان المقاومة والأحياء والتشبيك فيما بينها ، الأحزاب السياسية وتجديدها والوحدة مابينها ، قوى الحرية والتغيير وأهمية استمرار وحدتها وتماسكها ، لاعاصم سوى هذا المجتمع المدني القوي والموحد حول أهدافه المشتركة والتي في مقدمتها الحرية والسلام والعدالة وما تقتضيه دائما وأبدا من ديمقراطية ومؤسسات مدنية .

وعلى النقيض فإن ما يمكنه فعلاََ خدمة الاستثناء والتمهيد للانقضاض على السلطة هو عكس كل ذلك ، الفرقة والانقسام ، خطب المزايدة المتبادلة ، التخوين والتخوين المضاد ، غياب الرؤى والأهداف الموحدة والمشتركة ، الانقضاض سيكون سهلا عندما ينقسم المجتمع المدني ومنظماته وينشغل بالحسابات والمكاسب الآنية والخيالات الأيدلوجية ويغفل عن العموميات الأسمى والمشتركة .

الثورة معركة ، معركة جيل ، وكذلك يجب أن يكون تصورنا لها وتعاملنا معها دائما ، معركة بين قديم وجديد ، بين ديمقراطية ودكتاتورية ، بين حكم عسكري وآخر مدني ، بين أساليب وطرق سياسية قديمة ووسائل وأدوات جديدة يجب أن تبنى ، بين الإحباط والأمل ، وبين الشك أوالتخوين والثقة ، ولا سبيل لنا سوى أن نتمسك بهذه المعاني على الدوام، أن نحافظ على الزخم والتفاعل الجماهيري وعلى الوعي الشعبي الذي تجاوز في أوقات كثيرة البناء السياسي والحزبي الموجود وأجبر الجميع على المضي نحو خيارات الجماهير المحددة ، فلنحافظ على ذلك ولنقويه حتى نستطيع تحصين الثورة وحتى نغلق الباب أمام كل ذريعة ممكنة للاستثناء والانقضاض ، وحتى نمنع أي خاطرة أو فكرة يمكن أن تمر على عقل مواطن سوداني في أي مكان مفادها أن العسكر أو الدكتاتورية هم أفضل الخيارات الموجودة ! ، وبالتأكيد فإن الأزمات ستكون موجودة ولكن الثابت والحتمي دائما وأبدا هو أنها إذا لم تحل عبر نظام ديمقراطي فإنها ستتعقد حتما في ظل نظام شمولي ودكتاتوري .
محمد ناجي الأصم

‫4 تعليقات

  1. الانقلابات في السودان من المؤسسة العسكرية ليس وصفة سودانية وليس السبب فيه الأحزاب السودانية هذا ليس دفاعًا عن الأحزاب السودانية لان الاحزاب السودانية والمؤسسة العسكرية منتوج عقلية سودانية خالصة والمؤسسات العسكرية في دول العالم الثالث بطبيعة تركيبتها ومن نفس العقلية وامتلاكها للسلاح سوف تقوم بنقلاب لو اتي اليه الحزب الشيوعي او الإخوان المسلمين او البعثين او خمسة سكرانيين او لم يأتي اليه احد سوف تقوم تقلبها بمفردها أم الأحزاب السودانية اغلبها احزاب شمولية لا تؤمن بالديمقراطية و الانتخابات لذلك فاقد الشئ لا يعطيه.
    الان بعد سقوط الدكتاتور الفاسد لا توجد احزاب السودانية ونخب سودانية تعمل استراتيجيا علي
    ترسيخ الديمقراطية وحق الشعب في انتخاب حكامه إنما جميع يفتعل الصراعات ويتآمر حتي سيطر علي السلطة عن طريق انقلاب او السرقة.
    لو اصبح الدخول الي الجيش بتحليل الدم لن يتغير شئ هذه عقلية تكونت خلال مدة طويلة من الزمن لن تتغير في مدة وجيزة لذلك الدول التي اتراسخت فيه الديمقراطية لم يحدث ذلك بتوقيع المواثيق والتنظير إنما بالإجراءات العملية مثل حل الجيش او تسليح كل الشعب من اجل حمية خياراته من الخونة والعملاء والفاسدين .

  2. أحسنت يا دكتور في سرد أم معضلاتنا.
    لكن ، إذا كنت أنت – أحد أقوى أيقونات وعلامات القيادة والأمل وأهم من كانت تنظر اليه جماهير الثورة ووجوده يعطيها الثقة والعزيمة والأمل والثقة والإلهام والإصرار على تحقيق هذه الغايات- إذا كنت قد انسحبت فجأة من المشهد وبلا مقدمات ودون أن توضح لهذه الجماهير ما سبب ذلك. هل تعبت ؟ تذكر ما قاله الشهيد عبد العظيمز هل تريد أنم تعود من منتصف الطريق؟ ليس ذلك شأن القادة والثائرين مثلك. ستلد حواء السودان ألف محمد ناجي الأصم غيرك ، لكن ترجلك الآن وبهذه الطريقة أراه كطعنة نجلاء في خاصرة الثورة وامال هذه الجماهير التي تحلم بالسلام والعدالة والحرية. نعم قد أكون قسوت عليك أو ظلمتك لأنك لربما ترى أنني لا أعلم بمبررات انسحابك ، لكنني أراه ومهما كانت الميررات ليس مقبولاٌ. كتبت بنفس هذه القوة من قبل للقائد الآخر الأستاذ ابراهيم الشيخ ، وذلك لأننا نتحدث عن بناء وطن وآمال شعب طال عذابه وطال شوقه وتوقه للإنعتاق والإنطلاق نحو حياة كريمة ينعم فيها بالحرية والسلام والعدالة.
    فهذه دعوة وهذا رجاء لك عزيزي أن تعيد النظر في هذا الموقف ، خاصة إذا أعدت قراءة مقالك هذا والمحاذير التي أطلقتها فيه!! هذا النداء لأننا الآن في أحلك الظروف ونحتاج لجهد كل ثائر ، وأي ثائر وأي قائد أنت.

  3. شكراً د. محمد ناجي الأصم على هذا المقال… موضوعي واتفق معه جيدا ويجب دراسته بشكل جاد وأخذ الحيطة والحذر من الإنقلاب على الثورة…ويجب تفويت الفرصة على كل متربص وانتهازي ومغامر… ويجب على الحركات المسلحة أن تعي الدرس وترتقي لهذه المحازير وعدم اللعب بالثورة التي أهدرت فيها أرواح شهداء كرام… كما يجب التأكيد على حل اللجنة الأمنية بأسرع وقت لأنها تشكل خطرا على الثورة…..

  4. (فلم يحدث عبر تاريخ السودان أن انقلبت القوات المسلحة على الديمقراطية بدون إيعاز أو تحشيد من حزب أو منظومة سياسية ، في ١٩٥٨ ، ١٩٦٩ ، وفي ١٩٨٩ م )

    هي نقس الأحزاب التي أتت بمرشح دائرة أم دورين للبرلمان 1958….. ورئيس مفوضية إنتخابات الخج2010 رئيساً للخج . …………وهكذا دواليك…

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..