يحي فضل الله

عبدو جوطة

تداعيات

مغمى عليه ،ممزق الثياب، الدم ينفجر من عدة مناطق في الوجه، العنق، الرأس، الرجلين ،الأيادي. وصل الى المستشفى محمولاً على الأكتاف ويركض خلفه جمهور متوتر وساخط ، امام باب المستشفى كادت المعركة تتكرر لولا تدخل الشرطة التي حاصرت ذلك الجمهور امام الباب.
خلع عنه الممرض ما تبقى من تلك الثياب المعروفة بلونها الأسود، كومها على يده وقذفها حيث استقرت على كرسي، كتلة سوداء عليها بقع حمراء، بين هذين اللونين كان (عبدو جوطه) يرقد ممدداً على الكنبة، خارج وعيه تماماً، بعد ان طرح الجمهور على الأرض سور السلك الشائك الذي يحدد الميدان، احرقت الشباك، كراسي المقصورة تهشمت، الأبواب خلعت من مكانها، عنف في كل مكان، صيحات إنفعال لاحظها اطفال الأحياء القريبة من دار الرياضة، النسوة خرجن الى الشارع و بعضهن امام ابواب البيوت ، إنتشرت معارك صغيرة في الداخل والخارج، تداخلت المشكلات وتشابكت فاختلطت الإنفعالات، حين جاءت قوات الشرطة كان العنف قد وضع ملامحه على كل شيء، كل ما فعلته هو ملاحقة ذلك الموكب الثائر الذي يركض خلف (عبدو جوطه) المحمول على الأكتاف.
كان (عبدو جوطه) رجل الخط المعروف هو السبب الأساسي في كل ما حدث، فيما مضى ، (عبدو جوطة) كان من اهم وأميز المشجعين المتعصبين لفريقه ، لا يقبل هزيمته ، يحتفي بإنتصاره بجولة كاملة حول كل المدينة ، يصرخ امام من يصادفه، حين الهزائم لا يتوانى في الدخول في مشاجرات صغيرة غالباً ما يلتف حولها الناس كنوع من التسلية، كان معروفاً بحب ذلك الفريق ،فريق (العاصفة)، وكان من اهم رموز الفريق ، الجميع يعرف ان (العاصفة) يخصه وحده، يمكنه خلق ضجة يعجز عنها موكب كامل من المشجعين.
هكذا كان (عبدو جوطه) الى ان جاء ذلك الحكم الدولي الى المدينة في كورس تدريبي للحكام ورجال الخط، فكان ان إنخرط (عبدو جوطه) في هذا الكورس ليصبح بعد ذلك رجل الخط المعروفً ويحلم ان يأتي ذلك اليوم الذي يتحول فيه الى حكم اساسي.
في تطلعاته وأمانيه الجديدة تخلى عن حاله كونه مشجعاً، اعلن حياده، لم يعد يتحدث عن (العاصفة) ، فقدت المدينة تلك الضجة، حاول ان يثبت حياده من خلال ادائه حين يشارك في المباريات ، نسي الناس ذلك العشق القديم؛ عشق (عبدو جوطه) لـ(العاصفة)، ونسي هو تلك الكراهية المعلنة ضد فريق (الكفاح)؛ ذلك الند التقليدي لفريق (العاصفة)، إجتهد في ان يبعد عنه كل ذلك الانحياز القديم واضعاً في باله ان مثل هذا التاريخ قد يخلق من التأويلات والشائعات ما يكفي تاماً لإجهاض حلمه بقيادة المباريات، واظنه نجح في ذلك بالرغم من ان دواخله لم تستطع الابتعاد عن ذلك العشق، لذا كان متعباً جداً ان يسجن إنفعالاته الحميمة في الدواخل حيث لا يعلم احد، حيث يكون الإنحياز في الخفايا البعيدة مستعيناً على ذلك بصمته وانسحابه التكتيكي من تلك النقاشات التي كان من اهم رموزها، بأدائه الجاد في المباريات، بحذره الحساس الذي يتحكم في إستخدامه لتلك الراية الحمراء خاصة في حالات التسلل التي يكون فيها الجمهور دائماً صاحب وجهة نظر اخرى.
حالات من الترقب والإثارة اجتاحت المدينة، فمباراة (العاصفة) و(الكفاح) تحدد الفائز بالدوري، وهي لا تقبل التعادل بسبب تساويهما في الأهداف والنقاط، يعني مباراة حاسمة.. كل المدينة تتحدث وبحماس غريب عن الإحتمالات، نقاشات حادة حول المعركة القادمة، تصريحات وأمنيات، تحليل دقيق من قبل اولئك الذين حضروا تمارين الفريقين، إستعداد نفسي معقد من قبل الجمهور، كل المدينة سمعت ان مدرب وكابتن وسكرتير فريق (العاصفة)، ذهب ثلاثتهم الى حيث يسكن شيخ (هارون) في تلك الضاحية من ضواحي المدينة. شيخ (هارون) معروف بقدر عظيم لدى الجمهور الرياضي، يقال انه يستطيع ان يرى المباراة قبل ان تقام عبر قرعة كبيرة يعرف كيف يحولها الى شاشة تلفزيون بعد ان يملأها بالماء ويقرأ بعض التعاويذ المبهمة يمسح على ماء القرعة بيده اليمنى فيشاهد المباراة القادمة.. يعرف مواقع الخطورة على الفريق الذي استنجد به في مشاهدته للمباراة التي لم تقم بعد، يستطيع شيخ (هارون) ان يغير نتيجة المباراة حسب ما يتفق. يستطيع ان يحول الكرات التي تلج الشباك الى ضربة مرمى عادية، ولو صعب الأمر يحولها الى ضربة ركنية وذلك حين يدخل اصبع يده اليمنى في ماء القرعة ويسوط الماء على شكل دوائر معدلاً في المشهد الذي امامه.. لكن نادراً ما يحول شيخ (هارون) الأهداف الى ضربات جزاء وذلك هروباً من التفاصيل المتعبة.
لكل ذلك كان الجمهور الرياضي يلقب (الشيخ هارون) بلقب حضاري وهو (الفكي ابو دش).. قلت ان المدينة كلها تعرف إتصال فريق (العاصفة) السري للغاية مع (الفكي ابو دش)، لكن بعض الحاذقين الذين يرون ابعد من انوفهم يعرفون ان فريق (الكفاح) قد اتصل ايضاً بـ(الفكي ابو دش) لذا يرجحون ان نتيجة هذه المباراة ستحسم عن طريق ضربات الجزاء، ويقولون انها ستكون مباراة طويلة للغاية.
تتهامس المدينة ايضاً بأن فريق (الكفاح) ارسل مندوبه الى الفكي (ابوحسنين)، الذي يتميز بالتدخل المباشر في لياقة لاعبي الفريق الخصم، اذ يستطيع ان يؤثر على اللاعبين الخطرين يجعلهم فاترين، ضعيفي همة، وغالباً ما يقيد اي لاعب خطير يشير اليه ذلك الفريق الذي يتعامل معه ، يقول المحللون ان فريق (العاصفة) قد إتصل ايضاً بالفكي (ابو دش) والفكي (ابوحسنين)، وتتوه الأحاديث وتتفرع ويكون الغموض قد صفع كل الحقائق حين يكون الحديث عن إحتمال ان كلا الفريقين قد اتصل بكلا (الفكيين).. يبدو ان فريق (العاصفة) قد إتفق مع حارس مرمى و(ثيرد باك) فريق (الكفاح) على مبلغ من المال كي يتم إفتعال ضربة جزاء في حالة التعادل ، يقال ايضاً ان فريق (الكفاح) يحاول ان يشتري طاقم الحكام، كما ان هداف فريق (العاصفة) الخطير (زمبه) استطاع (الكفاح) ان يشتري منه صومه عن الأهداف ، هكذا في انتظار المدينة لهذه المباراة تمارس كل ذلك الهذيان مستمتعة بالإثارة والترقب، غارقة في محيط من التفسيرات و التحليلات والشائعات التي تجرد الحقائق وتجعلها دائماً بين الأبيض والأسود، بين الشيء وضده.
وسط صيحات الجمهور وصفيره العالي دخل طاقم الحكام ومن بينهم (عبدو جوطه) كرجل خط، تعالت الصيحات حين دخل الفريقين الى ارض الملعب، فريق (العاصفة) بزيه الأحمر والأخضر ، فريق (الكفاح) بزيه الأصفر والأسود، يتقافز اللاعبون متناثرين على ارض الملعب ، الجمهور محتشد بكثافة في كل الدرجات، جمهور غفير جلبته تلك الرغبة في الإرتياح من كل الإحتمالات، بدأت اهازيج التشجيع تخرج من الحناجر ، طبول تدق ، نظر الحكم الداخلي الى ساعته بعد ان انتظم اللاعبون في خاناتهم من اللعب وأعلن عن بداية المباراة ، هستيريا من الصراخ، توجيهات حادة من الجمهور للاعبين ، تصورات الجمهور عن المباراة تتصارع مع تصورات المدرب، العيون معلقة مع الكرة، اجساد المشجعين تتحرك حسب موقع الكرة في الميدان ، (عبدو جوطه) يتحرك الى الأمام وإلى الخلف حاملاً رأيته الحمراء يصارع دواخله حتى لا يتخلى عن ذلك الحذر الذي تدرب عليه بضبط حالات التسلل والرميات الجانبية على الخط، لا يهتم مطلقاً بمداعبات الجمهور الذي هو بين الجلوس والوقوف في المدرجات التي تقع خلفه ، الإثارة والترقب تغطي المكان بتجلياتها المختلفة ، صراخ، صيحات، مناقشات عالية، تحرشات صغيرة، اهازيج تملأ فضاء المكان بالمتعة، صعاليك دار الرياضة يمارسون حيويتهم بتلقائية عالية، بعض محبي الظهور يعلنون عن انفسهم بطرق مختلفة مستغلين تلك الجمهرة ، على المقصورة الجانبية يجلس اولئك الذين يدعون الاحترام ويتأففون من الغوغاء والدهماء التي تعج بهم دار الرياضة ، اطنان من التسالي والترمس والكبكبي تم استهلاكها. (قصب السكر) يساهم في إتساخ الأمكنة بعد ان نزعت تلك الأفواه المتوترة عنه قشرته، الجمهور متفاعل بكل مشاعره مع احداث المباراة التي لم تشهد حتى الآن اي اهداف، انها مباراة إثارة مكتملة، (عبدو جوطه) يمارس ذلك الركض الى الأمام، الى الخلف، وبالعكس ، يكاد عنقه يطير عن جسده هو يركض وعيونه متجهة نحو الميدان، رأسه يكون بإمالة ملحوظة وهو يجري محاذياً الخط، يخفي إثارته هناك في الحنايا البعيدة، يعاوده ذلك الحنين الى إنحيازه القديم، يهرب من كل ذلك بحذر معلن يشكل خطوات ركضه على الخط، يرفع رايته مؤكداً حياده.
انتهى الشوط الاول دون اهداف، لا زالت تلك الإحتمالات تطل برؤوس من قلق وتوتر، من بين ذلك الانتظار الذي يبدو طويلاً حلق في الفضاء صقر ، دار حول سماء دار الرياضة عدة مرات، تهادي الى اسفل، إختار بتلقائية ان يستريح على احد القوائم، القائم الذي على الجهة الجنوبية ،على قائم المرمى الذي كان يخص فريق (العاصفة) في الشوط الأول و بحكم اتجاه اللعب سيخص في الشوط الثاني فريق (الكفاح) ، فسر احد المجربين ذلك :- (الصقر ده يا اخوانا ركّ في قون (الكفاح) ، افهموها بقى ، (الكفاح) مغلوب مغلوب)، شاع هذا التفسير وتسرب بين الجمهور لذلك ضاع الشوط الثاني من المباراة بالاهتمام الذي تابع به الجمهور الصقر بدلاً من المباراة. الصقر لا زال على قائم مرمى (الكفاح) يحرضه قلقه الخاص ان يطير في الفضاء، يحلق الصقر وتحلق معه عيون الجمهور وتبدو المباراة فاترة ، يتهادى الصقر في سماء دار الرياضة مصاحباً بكل ذلك الاهتمام الشديد وكانه يعرف ذلك، يقترب من مرمى (العاصفة) يرتاح من دورانه المنساب على القائم يضج المكان بالصراخ ، تشهق الأفئدة وتهتز قلوب مشجعي فريق (العاصفة)، يحاول بعضهم هش الصقر من القائم ولكن الصقر لا يحرك ساكناً، يداعب الأماكن المخفية من جناحه بمنقاره، بينما الجمهور يتصايح و يتشنج ، الصقر يدور في السماء، تدور عيون الجمهور، يرك على قائم مرمى (الكفاح) ، صرخات، هتافات، الطبول تدق بعنف، يهشه مشجعو فريق (الكفاح) عن القائم، المباراة ضاعت من عيون الجمهور، أصبح اللعب رخواً بدون اي حماس، احس اللاعبون ان الصقر قد خطف منهم الأضواء، حاول حارس مرمى (الكفاح) ان يهش الصقر من مرماه مستغلاً ابتعاد اللعب عن المنطقة ليصرخ فيه مشجعو فريق (العاصفة) متهمين اياه بالجبن وبكمية من الألفاظ البذيئة والصقر لا يستجيب إلا لدورته الخصوصية خارج كل تفسيرات وأفكار جمهور دار الرياضة ، يرك، يحلق، ويرك ، وحين قرر الإبتعاد عن المنطقة كان قد فعل ما فعل بذلك الجمهور الذي عادة ما يلجأ الى تفسير الظواهر بتلك الروح الميتافيزيقية.
حين ابتعد الصقر عن سماء دار الرياضة مخلفاً تلك العلامات التي رسمها بحركته من قائم هذا المرمى الى ذلك وحين إنتبه الجمهور الى المباراة اتضح انه قد مضى زمن كبير من الشوط الثاني والمباراة تقترب من نهايتها و لا زالت الشباك خالية من الأهداف ، عادت اهازيج التشجيع، إرتفع حماس اللاعبين، كان (عبدو جوطه) على الخط بزيه الأسود، يركض متقدماً ومتراجعاً ، استطاع ان يضحك بصوت مكتوم وهو يراقب خلسة إنفعالات الجمهور مع حركة ذلك الصقر المتلاعب.
المباراة في دقائقها الأخيرة، توتر عالٍ يلوث انفعالات البشر، إثارة مكثفة ، الجو مشحون بالترقب ، صرخات، اهازيج تقترب من الصياح، اصوات مبحوحة ، في الدقيقة الثالثة و الاربعين من الشوط الثاني من المباراة بينما كان (عبدو جوطه) يمارس ركضه حينما تكون الكرة على الجانب المسؤول عنه ، نال فريق (العاصفة) ضربة ركنية ، ترقب وتشنج الجماهير.
ارسلت الضربة الركنية ليتلقاها (السر نتشه)، مهاجم العاصفة، طائراً على الهواء ويشوتها قوية على يمين حارس المرمى فيشتعل الميدان بالصراخ والعويل، ولكن الأغرب من ذلك ان (عبدو جوطه) لم يجد اي مشقة في ان ينسى انه رجل الخط في هذه المباراة ، عاد اليه ذلك الحنين، لذلك وبمجرد ان ولجت الكرة شباك مرمى (الكفاح) ما كان منه الا ان وضع الراية الحمراء بين إبطيه وقفز قفزة عالية ، صفق بيديه، رقص منتشياً بالهدف ، صرخ على نفس طريقته القديمة (اخ يا اولاد)، هكذا وصل (عبدو جوطه) الى هذا المصير بعد ان اعلن إنحيازه في تلك المباراة، وحيث ان فريق (العاصفة) كان منتصراً إلا ان ما فعله (عبدو جوطه) اضاع ذلك الانتصار ، لذلك ان الجمهور الذي اعتدى عليه لم يكن غير مشجعي فريق (العاصفة) الذي عبر هو نفسه بتلك الطريقة الخارجة عن القانون عن انتصاره.
خرج الممرض من الحجرة معلناً عن حالة (عبدو جوطه) قائلاً:
(( الزول ده عايز نقل دم )) .
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..