المحارب.. رواية.. الحلقة الرابعة

المحارب.. رواية.. الحلقة الرابعة.
انطلقت السيارة بعد ان اغلق العسكرى بابها الحديدى، واتجهت نحو المعسكر وبداخلها تكدس العشرات من الشباب البائس الذين قبعوا فى حالة من الذهول غير مصدقين ما حدث لهم .
جلس أشرف متهالكا على واحدة من الكنبتين بعد ان افسح له احد الجلوس مكانا .. فاستقر وهو ينظر الى من حوله فى ضيق وتبرم، ويتفرس فى الوجوه الشاحبة التى ارتسم عليها العبوس، وبينما السيارة تنهب بعجلاتها الاسفلت نهبا ادار وجهه ناحية جاره وساله فى ضيق وتبرم: الى اى معسكر سيرموا بنا ؟
– لا ادرى .. ولكن ربما ذهبوا بنا الى فتاشة..
– وأين يقع هذا المعسكر؟
– ما رأيته.. ولكن حسبما سمعت يقع غرب ام درمان، واردف : على ما اظن مسيرة ساعة بالسيارة شمال غربى ام درمان.
– حسنا.. ولكن الا تتفق معى ان امساك الناس بهذه الصورة المذلة، والقسوة التى يمارسها العساكر مع من يقع فى طريقهم من الشباب، ومعاملتهم بتلك الطريقة العدائية والتى شاهدناها الآن اهانة لكرامة المواطن .. اين منظمات حقوق الانسان؟ وماهو دور الاعلام فى التصدى لمثل هذه الافعال؟ واين العدالة التى يتشدق بها المسؤولون ؟ المعسكرات تفيض بالنظاميين والطلاب وكثير من المحسوبين على النظام فماذا يريدون من الشباب الذين يقوم اغلبهم بمساعدة اسرهم بعد ان ضاق الحال بالكل.
– انا لا افهم فى السياسة.. ولا احب الخوض فى اوحالها.. ولكن ماذا تريد من الناس ان يفعلوا؟ هل انت شيوعى؟.
– انا لست شيوعيا.. ولم اتحدث فى السياسة، انا مواطن، وهذى بلادى، احس – وغيرى كثر- بالظلم واريد من الناس ان يستنكروا ويرفضوا وان يوقولوا لا، حتى يعلم الذين ظلموا ان الناس قد ملت سياستهم التى ضيقوا بها الخناق على الشعب.
– البلاد فى حالة حرب، ونصيحتى ان تصمت، فان سمعوك تتحدث بهذه الطريقة فسيرمونك بالعمالة والخيانة، وعندها ستذهب الى السجن بدلا من معسكر التدريب .
– الحرب التى وقودها انا وانت وهؤلاء المطحونين .. السجن احب الى من الذهاب الى الجنوب والدخول فى اتون حرب لست مقتنعا بجدواها.
– ومن قال لك انك ستذهب الى الجنوب؟..
– كل الذين تمت عسكرتهم بهذه الكيفية رحلوهم الى هناك!!
– ماذا نفعل؟ يجب ان لا نهرب من الواقع.. ذهابنا الى المعسكر اصبح حقيقة لا مفر منها، رضينا بذلك ام ابينا ويجب ان نخضع لهذه الحقيقة.
– ولماذا نسكت، وحتى متى؟ يجب ان يصل صوت الاغلبية لولى الامر، لقد فاض الكيل، وبلغ السيل الزبى واصبح من العسير ان يحتمل الناس مزيدا من الظلم.
سمع واحد من العساكر الذين يقفون بجانب الباب ? تحسبا لأى طارئ ? سمع طرفا من الحوار الذى دار بين اشرف وجاره، فصاح متسائلا: عن اى ظلم تتحدث يا ( مستجد ) ؟ .
وجدها أشرف سانحة فصاح بانفعال: سعادتك للكثير ممن قبضتم عليهم ظروف قاهرة تحول بينهم وبين دخولهم الجيش.
– بيننا عالم اجتماع، قالها العسكرى بسخرية، ثم تابع فى ازدراء: ومن الذى خول لك ان تتكلم باسم هؤلاء؟..
– اجابه اشرف بسؤال: وما هو القانون الذى يخول لكم ان تقبضوا على الناس هكذا دون النظر فى احوالهم ؟ .
بوغت العسكرى باجابة اشرف فقال بلهجة آمرة: ولا كلمة.
لم يجد اشرف بدا من السكوت، فصمت وهو يكظم غيظه، ونظر من خلال النافذة إذ انتبه لنسمة عليلة داعبت صفحة وجهه، فوجد انهم قد وصلوا كوبرى ام درمان، راقه منظر النيلين فى نقطة التقائهما وهما يتعانقان فى الفة ومحبة حتى امتزجت روحيهما فصارا جزءً واحدا بعد رحلة مضنية من الشوق قطعا فيها البطاح والفيافى ليلتحما فى نقطة التقاء تعانقا فيها عناقا ابديا، فرسما لوحة فنية آىسرة يضج فيها السحر والجمال.
لم يُنس جمال ذلك المنظر اشرف زوجته والحالة التى تركها عليها، فطفق يفكر فى طريقة يتخلص بها من هذا الكابوس الذى داهمه من حيث لا يحتسب، فسبح غارقا فى افكاره الى ان نبهه جاره قائلا: هيا يا صديقى.. لقد وصلنا.
***
لنترك اشرف مع ذكرياته، ولنذهب فى زيارة خاطفة الى المستشفى الذى ترقد فى احدى عنابره زوجة بطل قصتنا هذى لنرى كيف امضت بخيتة تلك الساعات العصيبة مع ابنتها حنان.
نظرت بخيتة باشفاق الى ابنتها وهى تحتضن حفيدها، ثم قالت بيأس: لقد تأخر اشرف كثيرا.. واردفت فى وجل: ارجو ان لا يكون جرى له مكروها.
اجابتها حنان بصوت متحشرج كأنها تعانى سكرات الموت: ربما لم يجد الدواء .. ومن المحتمل ان يكون قد ذهب لشرائه خارج المستشفى..
– لكنه تأخر اكثر من اللازم، فقد مرت اكثر من ساعتين على ذهابه.. فليس من المعقول ان يتأخر كل هذه المدة الا ان يكون جرى … قطعت بخية حديثها فجأة، فقد تذكرت ان ابنتها ليس فى وضع يسمح لها بتقبل ما كانت تنوى قوله، فندّت عنها تنهيدة طويلة كادت ان تخرج معها روحها، فإبنتها عانت ما عانت من آلام المخاض الذى لازمها ليومين إذ تعسر خروج الجنين بطريقة طبيعية، مما دعى اشرف على العمل بنصيحة القابلة، والذهاب بزوجته الى الخرطوم حيث الرعاية الطبية احسن من تلك التى بمستشفاهم الريفى والذى تقتصر خدماته على بعض الامراض الخفيفة.
نزولا عند رقبة القابلة وخوفا واشفاقا على حنان قرر اشرف ان يسافر بزوجته الى الخرطوم، فتحرك ركبهم فى الهزيع الأخير من الليل متوجها الى الخرطوم التى وصلوها مع بزوغ الفجر، وبمجرد دخولهم المستشفى ذهبوا الى الطبيب المناوب مباشرة.
عاين الطبيب حنان التى كانت تتألم فى صمت وبعد الكشف عليها قرر ان تُجرى لها عملية قيصرية مستعجلة .
وبعد التجهيزات الروتينية التى تمت على جناح السرعة، أدخلت حنان وهى ترقد على نقالة الى غرفة العمليات، واجريت لها العملية واطلق مولودها الذكر صرخته الاولى مع شروق شمس ذلك اليوم من ايام يوليو الخريفية .
خرجت حنان من غرفة العمليات وهى تعانى من نزيف حاد، باءت كل محاولات الاطباء لإيقافة بالفشل، وهاهى الآن ممددة على سريرها فى شبه غيبوبة، وها هو اليأس والخوف يدبان فى قلب بخيتة، فوضعت الطفل بجانب امه ثم خرجت وطفقت تذرع الطريق من باب العنبر الى البوابة جيئة وذهابا علها ترى اثرا لأشرف.
وبينما هى على ذلك الحال إذا بها تبصر على واحمد اخوى اشرف الذان جاءا لزيارتهم، فنادت عليهما غير مصدقة، جاءاها وسلما عليها ثم سألاها عن حنان، فقصت عليهما ما جرى من احداث فى هذا اليوم العصيب وختمت حديثها بأن نقلت لهما خوفها وقلقها على اشرف الذى اختفى بصورة مريبة كان الارض انشقت وابتلعته.
قال على مستنتجا وموجها حديثه لاحمد: من المؤكد ان اشرف لم يجد الدواء داخل المستشفى فاضطر الى جلبه من خارجها، ويبدو انه وقع فى قبضة العساكر، فقد سمعت بأن هناك حملات تجوب شوارع العاصمة ليلا ونهارا ومن المؤكد ان احداها صادفته عند خروجه من المستشفى.
اجاب على مستنكرا وقد حاول ان يدارى قلقه: كيف يمسكون الناس هكذا ? بصورة عشوائية دون النظر لظروفهم، وماهى المعايير التى يتم بها اختيار الضحايا ؟ مسكين اشرف لم يتهن بفرحة مولوده البكر..
قال احمد فى قلق وهما يلجان غرفة حنان: اتمنى ان لايكون اصاب اشرف مكروها.
دخلا على حنان بصحبة والدتها فوجدا ان حالتها اسوأ بكثير مما سمعاه عنها من امها، لقد ساءت حالتها لدرجة انها لم تحس بمقدمهم فقال على: يجب ان ننادى لها الطبيب فى الحال.
لم ينتظر احمد عليا حتى يتم كلامه فخرج مسرعا، وسأل عن مكتب الطبيب فدله عليه احد الممرضين فذهب مهرولا الى ان وصل، نقر نقرات خفيفية على الباب فجاءه صوت الطبيب من خلف الباب أن تفضل بالدخول.
دخل على الطبيب وحياه ثم عرفه بنفسه ورجاه ان يات معه لحنان التى ساءت حالتها لدرجة انها باتت لا تحس بمن حولها.
استجاب الطبيب فى الحال لطلب أحمد وجاءا معا، وصلا الى حيث ترقد حنان واسترعى انتباهه جحوظ عينىها وصدرها الذى كان يعلو ويهبط بسرعة ملحوظة، فدنا منها وامسك بجهاز الكشف ووضعه على صدرها فوجد ان دقات قلبها تعمل بسرعة غير طبيعية، وهذا مؤشر خطير ينبئ بعاقبة وخيمة فرفع راسه وقال باهتمام : يجب ان تحول الى غرفة العناية الفائقة فورا، وامر احد الممرضين بالاسراع بالاتيان بنقالة، فهرع الممرض وغاب بضعة دقائق قبل ان يعود وهو يدفع امامه بنقالة . وُضعت حنان الغائبة عن الوعى عليها ومن ثم اتجهوا بها نحو غرفة العناية الفائقة.
وهناك تمددت حنان على السرير كأنها جثة هامدة.. كان مشهدا قاسيا ان ترى بخيتة ابنتها على تلك الحالة، فنظرت نظرة قلقة عبر النافذة الزجاجية وهى تتابع سريان المحلول الوريدى وهو ينساب عبر الانبوب الذى ادخل فى خياشيم ابنتها. فراعها ان ترى وحيدتها على تلك الحالة، فلم تتمالك نفسها فاجهشت بالبكاء وهى تدعو الله بقلب واجف ان يشف ابنتها ويرد لها عافيتها وبعلها.
ثلاثة ايام بلياليها وحنان فى غيبوبتها تلك، وابنها يرقد بعيدا عنها فى احدى حاضنات الاطفال.. ثلاثة ايام والاطباء عملوا كل ما فى وسعهم الا ان حالة حنان ظلت كما هى، ثلاثة ايام وبخيتة لم تذق طعما للراحة فقد اصابها الفزع من ان تفقد ابنتها، ولو لا وجود على واحمد ومواساتهما الدائمة لها لفقدت عقلها.
وفى صبيحة اليوم الرابع وبينما بخيتة تقف خارجا وتنظر لابنتها من خلال النافذة الزجاجية بقلب مزقه الألم ونفس تنازعتها الهواجس، اذا بها ترى حنان وقد بدأت تحرك رجليها وتحاول فتح عينيها التان ظلتا مغمضتان طيلة الايام الفائتة.
بدأت حنان تتماثل للشفاء شيئا فشيئا ودبت الحياة فى جسدها من جديد بفضل الله، ثم بفضل الجهود الخرافية التى بذلها الاطباء، وكم كانت سعادة امها بذلك، فقد عاشت ايام حالكة السواد وابنتها غائبة عن الدنيا، وما زاد من معاناتها غياب اشرف واختفائه فى ظروف غامضة، وعلى الرغم من تطمينات على واحمد الا ان الافكار السوداء ما انفكت تسيطر على تفكيرها.
الامين ابراهيم احمد ارباب
[email][email protected][/email]