ملاذ الشاعر عند السعي الخاسر

ليس هروباً من الواقع المر بقدر ما أنه قراءة استرجاعية لأبيات شعرية كتبها صلاح عبد الصبور الذي ألجأ عادة ومن حين لآخر الى نقشه الخالد على جدار الشعر، فأقف عند بوابة صوره البديعة وخلاصات تجاربه الحياتية. وربما لأنه حار ذات يوم في فهم عصف الحياة وما تضاعفه الأيام من مشقة على كاهل الإنسان المثقل أصلا بالهموم والعاجز عن فك شفرتها، قال: (لم يسلم لي من سعيي الخاسر إلا الشعر/ كلمات الشعر/ عاشت لتهدهدني/ لأفر إليها من صخب الأيام المضني / إن تجف فجفوة إدلالِ لا إذلال/ أو تحنُ، فيا فرحي غرد، يا نعمة أيامي عودي). ومع أن ذلك يعد قراراً سريعاً بالاستسلام إلا أن ما يريح الخاطر فيه أن الشاعر ألقى بثقله لأريكة الشعر كملاذ آمن ومتكأ وثير، فهل نقتدي به ونحن نعتلي في هذه الأيام جبالاً من الهموم دون أن ندري كيفية الهبوط من علياها أو تجاوز عقباتها بأقل الخسائر؟
ولكي نضع النقط فوق الحروف، في هذه الأيام ارتفع مؤشر المعاناة اليومية للمواطن المغلوب على أمره حتى طوق ضرورات الحياة اليومية وجعلها جحيماً لا يطاق، بل إنه فاق حدود التدبير الذي كان المواطن كحاو بارع يطوع به مقدراته المحدودة – ولو على حساب وجباته وتنقلاته ومجاملاته وكسائه وعلاجه وتعليم ابنائه ناهيك عن الترفيه والكماليات – لكي يوفر لرئتيه ما يعينهما على رتابة طلوع ونزول النفس، عسى أن تجيء شمس الغد بما يبعث بروق الأمل ويلوّح براية البشارة معلناً ميلاد يوم جديد تجري فيه ماء الحياة الروتينية بلا عناء. ولكن ما نراه في قارعة الطريق حياً يسعى بيننا، وما نقرأه في صحفنا مكتوباً بلا مواراة، وما نسمعه من أجهزة البت الإذاعي والتلفزيوني، يضعنا في مكان المتسائل عن كيف تجتمع في بلد واحد كل هذه النقائص والنقائض والعجائب والمثالب والمتناقضات والمعجزات وطهر العُبّاد وبؤر الفساد؟ وكيف يتسنى لمن يقفون تحت ظله، التعايش بالهدوء والقناعة مع مرئيات الواقع؟
وإلى أن يتكون جنين الإجابة ويكتمل النمو سألجأ لذات الملاذ الذي اختاره صلاح عبد الصبور وهو أريكة الشعر فأقول:
حينَ دلفتُ مُوقناً بالركضِ خلف الشمسْ
كانَ يرتدي المساْ وشاحَ صمتِه دلالةً للعِشقٍ والفُجاءةْ
وكنتُ أرتدي همومَ باعثي عُباءةْ
سيانَ أنْ أموتَ واقفاً على بساطِ العِزْ،
أو أموتَ مُعدمْ الكَفاءةْ
هنا رحلتُ عَبرها وتُقُتُ للمدى يَظلني سَحابةً
يَعُمني رحابةً
يَبِلني عطاءا
فتحتُ كوةً من غاريَ العتيقَ أرتجي جلالَ وجِهِها يكونَ لي
بقدرِ عمريَ القصير ربوةً ومتكأْ
اللهُ يا بِحارَها
كالشوقِ حينَ تعصُفينَ بي
يجفَ منبعيْ وتخمدَ المطارقُ الهطولةُ البُكا
اللهُ يا جِدارَها الدفيء
عليكَ موجتانِ حلتا وثاقنا
وقامتا وغاصتا بنا
عليك موتنا وبعثنا يا وجهَهَا الوضيءْ
يا مَنْ تجيء عارماً وجارفاً وتستريحَ مُعطياً على أرائكِ الوجودْ
نهلتٌ منكَ قَدْرَ طَولتي
وما ارتوى تعطُش السُدود
فعُدت رحليَ المهيضَ لا يقرْ
الركضُ خلفَ الشمسِ كانَ لي مدارْ
عُيونُها أشعةُ النهارْ
وهذه البُنىَ رحيبةُ الإطارْ
تنهضُ في وجهي فواصلاً للرفضْ
يظلُ عارَ الركضْ
يظلُ داءَ الركضْ
صلاح يوسف
[email][email protected][/email]