مقالات وآراء

من السلطة إلى الدولة – تحديات بناء السودان ما بعد الاستقلال.. الدور الإقليمي والدولي- كيف أثّر في تشكيل السلطة؟(٥)

 

منذ استقلال السودان عام 1956، لم يكن البلد معزولًا عن المؤثرات الخارجية، بل كان دائمًا ساحةً لصراعات القوى الإقليمية والدولية. لعبت هذه العوامل دورًا في تثبيت السلطة بدلًا من بناء الدولة، حيث كانت الأولوية للحفاظ على الحكومات القائمة، بغض النظر عن مدى شرعيتها أو قدرتها على بناء مؤسسات وطنية قوية.

*فكيف أثرت العوامل الخارجية في تشكيل السلطة في السودان؟ وكيف يمكن للسودان أن يتحرر من هذه التأثيرات لبناء دولةٍ مستقلةٍ بإرادةٍ وطنية؟*

1. *النفوذ البريطاني والمصري في السنوات الأولى للاستقلال*

أ. *بقايا النظام الاستعماري البريطاني*

عند خروج بريطانيا، تركت وراءها إدارةً استعماريةً لم تُصمم لتكون دولةً وطنيةً، بل للحفاظ على السيطرة البريطانية غير المباشرة.

استمر الاقتصاد في الاعتماد على النمط الاستعماري القائم على تصدير المواد الخام واستيراد المنتجات المصنعة.

لم يكن هناك اهتمام ببناء مؤسساتٍ ديمقراطيةٍ قويةٍ، مما سهّل على النخب المحلية وراثة السلطة بدلًا من إعادة هيكلتها.

ب. *التنافس المصري-السوداني*

كانت مصر، بقيادة جمال عبد الناصر، تريد ضم السودان بالكامل أو الإبقاء عليه في دائرة النفوذ المصري.

دعمت مصر الأحزاب والقوى القريبة منها، وساندت بعض الانقلابات العسكرية لضمان استمرار سيطرتها على الشأن السوداني.

أدى هذا التدخل إلى انقسام القوى السياسية في السودان بين تياراتٍ مواليةٍ لمصر وأخرى تسعى للاستقلال التام عن النفوذ المصري.

النتيجة: بدأ السودان مسيرته السياسية في ظل تأثيرٍ خارجيٍّ قويٍّ، حيث لم تُمنح الفرصة الكاملة لتطوير رؤيةٍ وطنيةٍ خالصةٍ للدولة.

2. *التدخلات الأمريكية والسوفييتية خلال الحرب الباردة*

أ. *الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية*

خلال الحرب الباردة، أصبح السودان جزءًا من الصراع بين المعسكرين الأمريكي والسوفييتي.

دعمت الولايات المتحدة الأنظمة التي كانت تعادي الشيوعية، بينما قدم الاتحاد السوفييتي دعمًا للحكومات التي تبنت سياساتٍ اشتراكيةً.

ب. *دعم الأنظمة العسكرية*

انقلاب نميري (1969) جاء بدعمٍ غير مباشرٍ من التيارات الاشتراكية، ثم تحول إلى التحالف مع الولايات المتحدة في الثمانينيات.

انقلاب البشير (1989) جاء بدعمٍ إسلاميٍّ، لكنه استفاد لاحقًا من الدعم الأمريكي في بعض الفترات قبل أن يدخل في مواجهةٍ مع الغرب.

كل هذه التدخلات جعلت الحكومات السودانية أكثر ارتباطًا بمصالح القوى الخارجية، مما أضعف قدرتها على بناء دولةٍ ذات سيادةٍ مستقلةٍ.

النتيجة: بدلًا من بناء دولةٍ قائمةٍ على إرادة الشعب السوداني، أصبحت السلطة في السودان رهينةً للتحالفات الدولية التي تتغير مع تبدل المصالح العالمية.

3. *التأثير الخليجي والإفريقي في فترات الحكم المختلفة*

أ. *النفوذ الخليجي*

منذ السبعينيات، لعبت دول الخليج، خاصةً السعودية والإمارات وقطر، دورًا متزايدًا في السياسة السودانية.

استخدمت هذه الدول المساعدات الاقتصادية والاستثمارات كأدوات ضغطٍ على الحكومات السودانية.

في بعض الأحيان، دعمت بعض الأنظمة السياسية مقابل التزاماتٍ إقليمية، مثل مشاركة السودان في التحالف العربي في اليمن.

هذا جعل السلطة تعتمد على الدعم الخارجي بدلًا من بناء اقتصادٍ وطنيٍّ قويٍّ ومستقلٍّ.

ب. *التدخلات الإفريقية*

كان السودان جزءًا من صراعات القرن الإفريقي، حيث تأثر بالحرب الأهلية الإثيوبية والصراع الإريتري الإثيوبي.

دعم السودان بعض الحركات المتمردة في دول الجوار، فيما دعمت بعض الدول الإفريقية حركات التمرد داخل السودان.

أدى هذا التدخل المتبادل إلى حالة عدم استقرارٍ سياسيٍّ دائمٍ.

النتيجة: أصبح السودان جزءًا من التحالفات الإقليمية المتغيرة، مما أعاق بناء سياسةٍ خارجيةٍ مستقلةٍ تخدم مصلحة الدولة السودانية.

*كيف يمكن للسودان أن يتحرَّر من هذه العوامل ويبني دولةً مستقلةً بإرادةٍ وطنية؟*

1. *بناء اقتصادٍ مستقلٍ ومتنوع*

الحد من الاعتماد على المساعدات الخارجية والتحكم في الموارد الوطنية.

تطوير الزراعة والصناعة المحلية لخلق اقتصادٍ وطنيٍّ مستدامٍ.

 

2. *تحقيق استقلال القرار السياسي*

وضع سياساتٍ داخليةٍ قائمةٍ على المصلحة الوطنية وليس على إرضاء القوى الخارجية.

تنويع العلاقات الخارجية بحيث لا يكون السودان تابعًا لأي محورٍ دوليٍّ أو إقليميٍّ.

 

3. *إصلاح مؤسسات الدولة*

بناء مؤسساتٍ قويةٍ لا تعتمد على دعم القوى الخارجية.

وضع دستورٍ دائمٍ يمنع التدخلات الخارجية في السياسة السودانية.

 

4. *تعزيز الوحدة الوطنية*

إنهاء الصراعات الداخلية التي تجعل السودان عرضةً للتدخل الخارجي.

إشراك جميع القوى السياسية في عملية بناء الدولة بدلًا من الاعتماد على تحالفاتٍ خارجيةٍ لدعم طرفٍ دون الآخر.

*خاتمة*

لم يكن السودان في يومٍ من الأيام بعيدًا عن التأثيرات الخارجية، لكن هذه التدخلات لم تكن دائمًا لصالح بناء دولةٍ وطنيةٍ مستقلةٍ. اليوم، أمام السودان فرصةٌ جديدةٌ للابتعاد عن هذه الصراعات وبناء نموذجٍ للدولة يرتكز على السيادة الوطنية والإرادة الشعبية.

فهل يستطيع السودان أخيرًا التخلص من هذه القيود والانتقال من “السلطة” إلى “الدولة”؟ هذا ما سنناقشه في المقال القادم.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..