مقالات وآراء

قِصَّةُ مُؤْخِرَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي بَارَكَهَا السُّلْطَانُ

قِصَّةٌ قَصِيرَةٌ

عَاطِفٍ عَبْدَاللهَ

 

حدَّثني ثقةٌ في زمنٍ غابت فيه العقولُ، وفسدت فيه الفصولُ، وصار لكلِّ شيءٍ ثمنٌ مقبولٌ، إلا العقلَ والطَّماطمَ، قال:

طرقَ المدينةَ، ولأوَّلِ مرَّةٍ، تاجرٌ على رأسِ قافلةٍ محمَّلةٍ بثمارِ الطَّماطمِ، فعرضَ بضاعتهُ للنَّاسِ، فلم يشترِ منهُ أحدٌ.

تعجَّبَ التاجرُ من أهلِ تلكَ المدينةِ، حيثُ لم يكنْ أحدٌ منهم قد سبقَ لهُ رؤيةُ الطماطمِ من قبلُ.

احتارَ التاجرُ فيما يصنعُ بهذه التجارةِ قبلَ أنْ تتعفَّنَ، فسألَ أحدَ تُجَّارِ المدينةِ عن وسيلةٍ ناجعةٍ لتسويقِ بضاعتهِ، فقالَ لهُ:

“لن يشتريَ منك أحدٌ حتى تصدرَ فيها فتوى من الوعَّاظ، ويباركها لك سيدي السُّلطان، ولو كنتَ محظوظًا يشاركك فيها أحدُ أشقَّائهِ أو أبنائهِ الأمراءِ”.

فذهبَ التاجرُ إلى قصرِ السُّلطانِ، وبعد إجراءاتٍ من ماذا ولماذا وكيف، دخل القصرَ المنيفَ، ووجد السُّلطانَ ومعهُ وليُّ عهدِهِ الأمينُ، فعرضَ عليهما تجارتَهُ، فقالَ له السُّلطانُ:

ــ ما هذه الثمارُ التي تُشبهُ مؤخرةَ الشيطانِ؟

ــ إنَّها الطماطمُ.

ــ أهيَ من الفاكهةِ أم الخُضَر؟

ــ إنَّها فاكهةٌ يحسبها البعضُ خُضرًا… خُذْ تذوَّقْها … ولترَ كيفَ هيَ طيِّبةُ المذاقِ.

ــ أَحلالٌ أهيَ أم حرامٌ؟

ــ ما الذي يحرِّمُها، سيدي السُّلطان؟ إنَّها من خيراتِ الأرضِ…

ــ لا تعلمُ … لابدَّ لنا من فتوى … أين الوعَّاظ؟ ائتوني بالوعَّاظ!

كان الوعَّاظُ يتناولون طعامَ الغداءِ في مطبخِ القصرِ، فجاؤوا مهرولين ملبِّين نداءَ السُّلطان، يجرجرون أطرافَ ثيابهم، ممسكين بعمائمِهم، وبقايا الطَّعامِ على أفواهِهم، فبدأ الحديثَ كبيرُ الوعَّاظِ:

ــ نعم، سيدي السُّلطانُ؟

ــ أريدكم أن تفتوني في هذه الثمارِ التي تُشبهُ مؤخرةَ الشيطانِ، أطاهرٌ حلالٌ طيبٌ أكلُها؟ أم هي من الخبائثِ المحرَّمةِ؟

ــ حسنًا، دعنا نجتمع لنتشاورَ في أمرها.

ــ لكم ما طلبتم.

خرج السُّلطانُ وخرجَ معهُ الجميعُ، وبقيَ التاجرُ مع الأميرِ، الذي باغتَهُ بالسؤالِ:

ــ كم تطلبُ ثمنًا لها؟

ــ ألن ينتظرَ مولاي الأميرُ رأيَ الوعَّاظ؟

ــ لا يهمُّ … سألتك: كم تبقي ثمنًا لها؟

ــ سأبيعُ لك الصاعَ بنصفِ دينارٍ، ولكنْ لك أنْ تنتقيَ صاعين منها، وإن تقبلْهُما هديةً لك، سيدي الأمير.

ــ قبلنا الهديةَ، لكنِّي أتحدَّث عن رغبتي في شراءِ بضاعتِك كلِّها، سأدفعُ لك خمسةَ أصواعٍ بنصفِ دينارٍ.

ــ لا يمكنني أنْ أبيعَها بهذا الثمنِ البخسِ، هذا أقلُّ كثيرًا من الثمنِ الذي اشتريتُها به، سأتكلفُ خسارةً جسيمةً!

ــ ولكنك إنْ لم تبِعْ لي، ستكسدْ بضاعتُك وتفسُدْ!

ــ لا… لن أبيعَها بهذا الثمنِ البخسِ، سأجدُ مشترين آخرين حالما يُفتي فيها الوعاظُ بأنها حلالٌ.

ــ لا تتفاءلْ كثيرًا، لن يُفتوا فيها حتى يستدعيَهم والدي السُّلطان، ومهما فعلتَ، لن تجدَ مشتريًا غيري.

خرج التاجرُ، وأخذَ بضاعتهُ، وطافَ بها كلَّ أحياءِ المدينةِ، فوجد أن اسمَ “مؤخرةِ الشيطانِ” قد سبقه أينما حلَّ، وأنها محرَّمةٌ!

احتارَ دليلُه، وحينما أحسَّ أنَّ الطماطم بدأت تَضمُرُ، وعما قريبٍ ستصابُ بالفطرياتِ والعفنِ، عاد إلى قصرِ السُّلطانِ، وقابل الأميرَ، وقال له:

ــ إنك على حقٍّ، لم يشترِها أحدٌ مني، لذا سأبيعها لك، لكنْ أرجو أن تقلِّلَ خسائري وتشتريَ مني الخمسةَ أصواعٍ بدينارٍ.

ضحك الأميرُ، وقال له:

ــ بل العشرةُ بنصفِ دينارٍ!

ــ ماذا؟ لكنك بالأمسِ قلت لي: الخمسةُ بنصفِ دينارٍ!

ــ ذاك كان بالأمسِ… والأمسُ مضى ولن يعودَ، ونحنُ في اليومِ… أرضيتَ؟ أم تحملْ بضاعتَك وتمضِي؟

ــ سأبيعُها لك… تفضل، خذها.

أخذها الأميرُ، ودفعَ له كيسًا من الدنانيرِ ثمنًا للبضاعةِ. خرج التاجرُ وهو يجرجرُ أذيالَ الهزيمةِ، حاسرًا حزينًا، بعد أن أدرك أن الحلالَ لا يُعرفُ بطعمهِ، بل بمن يملكُه، وأن الفتوى لا تنزلُ من السماءِ، بل تخرجُ من جيبِ الأمير!

استدعى الأميرُ كبيرَ الوعَّاظِ، وأشار إليه بطرفِ عينه، فخرج الواعظُ يخطبُ في الناسِ، وبعد أن حمد الله على أفضالهِ وإحسانهِ، وسأله المزيدَ من نعمِه وإكرامهِ، ودعا بطولِ العمرِ لخليفةِ المسلمين، السُّلطانِ صاحبِ العزَّةِ والتمكينِ، ولوليِّ عهدِهِ القويِّ الأمينِ، قال:

ــ أيُّها الناسُ، إنَّ الطماطمَ هي خُضرٌ حلالٌ … حلالٌ، ومن يصفُها أو يُطلقُ عليها اسمَ “مؤخرةِ الشيطانِ” فقد ارتكبَ إثمًا عظيمًا، وعليه أنْ يُكفِّرَ عن ذلك بشراءِ أربعِ صاعاتٍ من الطماطمِ، ويتصدَّقَ بها على الفقراءِ والمساكينِ وأبناءِ السبيلِ.

ولتعلَّموا … وليُبلِّغِ الحاضرُ منكم الغائبَ: إنَّها ليست فقط طعامًا حلالًا، بل هي فاكهةُ أهلِ الجنَّةِ، ومن أكل منها في الدنيا كأنما ذاقَ من نعيمِ الآخرةِ.

اللهمَّ نسألكَ الجنَّةَ بغيرِ حسابٍ ولا سابقَ عذابٍ، اللهمَّ أسبغْ علينا نعمتكَ بمزيدٍ من الطماطمِ، سبحانكَ ربَّ العزَّةِ عمَّا يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

وبعدَ ذلك أقبلَ أهلُ تلكَ المدينةِ على شراءِ الطماطمِ، الصاعُ بدينارَين.

“تمَّت”

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..