مقالات وآراء

الطَّبِيعَةُ والجَمَالُ فِي شِعْرِ مُصْطَفَى بَطْرَان

دراسة أسلوبية بلاغية

عماد الدين قرشي محمد حسن

الشَّاعر مصطفى الحاج بطران يُعتبر من فحول شعراء الحقيبة البارزين الذين ملأ صيتهم الآفاق, نبغ في الوصف حتَّى أطلق عليه الشَّاعر مبارك المغربي اسم ( الشَّاعر الوصَّاف ) ؛ لإجادته فن الوصف , كما لُقِّب أيضًا بشاعر الطبيعة ؛ لما يتمتّع به من دقَّة الملاحظة , والحسّ المرهف , والمعرفة بمواطن الجمال , فللطبيعة دور بارز في صقل قريحة الشعراء , بل تعدُّ مصدر إلهام شعري ورافدًا زاخرًا يمدُّ الشعراء بالصور الخلابة , فمن تجليات الإبداع الملحوظة في شعر مصطفى الحاج بطران وصف الطبيعة وتصويرها , وهذا التَّصوير الوصفي ليس من قبيل الوصف التَّقريري المباشر , وإنَّما هو قدرة تخيلية عميقة في الشَّاعر في تشخيص التَّجربة ؛ حيث جعل الطبيعة تطاوع مشاعره الجياشة فتحزن لحزنه وتفرح لفرحه , فهي الملاذ والمرفأ والحضن الدافئ الذي ينشده الشَّاعر ؛ لذلك قدَّمها كبطاقة دعوة لالتماس الجمال , فيقول في أغنية :( اطرد الأحلام يا جميل واصحا ) :

اطْرُد الأحـــــــــلام يا جميل واصحا 

قوم نقضي اللَّيل في ضفاف النِّيل

ننشد الفسحة

استهل الشَّاعر هذا النَّص بالأسلوب الإنشائي الطلبي مستخدمًا فعل الأمر الذي خرج عن معناه الحقيقي وجاء بغرض الالتماس والرَّجاء , وقد تكرر في المقطع ثلاث مرات : ( اطرد , اصحى , قوم ) مما يدل على إلحاح الشَّاعر وإصراره , وهو يخاطب شخصًا وجده نائمًا على شاطئ النيل كما قيل في مناسبة هذه الأبيات , أو ربَّما أراد الشَّاعر إغراء المحبوب ودعوته لمشاهدة روعة اللَّيل على شاطئ النيل ؛ ولعلَّ ذلك هو الأقرب حسب قرائن الألفاظ ودواعيها في النَّص , ولعلَّ استخدام الأسلوب الإنشائي في مطلع الأبيات يسهم في إضفاء طابع الحيويَّة والتَّجدد في النَّص , وهذا ينسجم مع تطلع الشَّاعر لاستقطاب اهتمام المتلقي وجذب انتباهه .

أمَّا المقطع الثاني تتجلى فيه براعة الوصف وسعة خيال الشَّاعر , فيقول :

منظر النُّوَار يغني عن أنوارٍ للظَّلام يمحى

ديك شواطئ النيل بالسرور طافحه

لابسه بدر التَّم وللنجوم لافحه

شتلة الياسمين مايله بصفحه

ميلها بشجيك من شذاها يجيك كل حين نفحه

شوف وجوه الروض باسمه منطرحه

وتضحك الأزهار ميته بالفرحة

ليه شجرة الفل ياخي منشرحه

الورود بالمر لونها ليه يحمر كأنه منجرحه

ديك طيور منظوم روقه زي سبحه

فنلاحظ في هذا المقطع قدرة الشَّاعر الإبداعية على تشخيص عناصر الطبيعة لتأخذ صفات إنسانية , فخلق منها صورًا حسية نابضة بالحركة والحياة ؛ فجعل الشَّاعر الطبيعة تشاركه حبه ووجده وأشواقه , وتتأثر وتشفق عليه ؛ فمشهد النُّوار المتفتح يكاد تفتحه يمحو الظَّلام ويُغني عن نور الشَّمس , وشواطئ النيل تطفح وتمتلئ بالفرح والسرور , كما تبدو الشواطئ من جمالها كأنَّها تتقمص بدر التَّمام جمالًا وتتلفح النُّجوم ثوبًا كفتاة محتشمة , وشتلة الياسمين تميل بصفحتها كفتاة رشيقة القوام وتنشر عطرها في الجوِّ يضمخ كل أرجاء المكان , وأزهار الرياض المتفتحة أشبه بوجوه فتيات باسمات يضحكنَ في بهجة وسرور , وشجرة الفُل تبدو كفتاة منشرحة الصَّدر , والورد في احمراره يحكي لونه الجرح العميق , وها هي الطيور تسجع في طرب , وتحلق في السَّماء في أشكالٍ منتظمة كأنَّها مسبحة تتدلى من يد عابدٍ متبتل امتلأت رتاه بحرارة الذكر .

والشَّاعر في هذا التَّشخيص العجيب ينطلق من خيالٍ قويٍّ , وعاطفة مرهفة , وشعور عميق بدقائق الأشياء , فنلاحظ التَّناسق التَّام بين هذه المعاني التَّشخيصية وانسجامها في حركة نابضة ؛ ومن هنا تأتي روعة الوصف وجماله الفيَّاض.

ونلاحظ في هذه الأبيات أنَّ الأسلوب الخبري يشكل نسبة كبيرة في البناء الأسلوبي لهذا النَّص ؛ لأنَّ الشَّاعر يتحدث فيها عن صفات بعضها ثابت ومستقر , وأخرى متجددة ؛ لذا نجده يكرر استخدام الجمل الاسمية فـ( شواطئ النيل بالسرور طافحه ) , و( شواطئ النيل لابسه بدر التَّم ) , و( شواطئ النيل للنجوم لافحه ) , و( شتلة الياسمين مايله ) , فكلها جمل اسمية المخبر عن المبتدأ فيها هو اسم فاعل ([1]) , مثل : ( طافحة , لابسة , لافحة , مايلة ) , فـاسم الفاعل الواقع في هذه الجمل الاسمية جاء للدلالة على الثُّبوت والدوام والاستمرار؛ لأنَّ ” اسم الفاعل الواقع في الجملة الاسمية يأتي للدلالة على الثُّبوت والدوام والاستمرار في الغالب ” ([2]) ؛ فالسرور وصف ثابت لا عارض ولا محدود بزمنٍ محدد لشواطئ النيل , فكأنَّه يريد أن يقول : السرور ثابت غير مقتصر على زمنٍ معيَّنٍ , فالشَّاعر يريد استمرار ديمومة هذه الصفات فلذا لجأ لاستخدام صيغة اسم الفاعل ليبين ذلك , بينما نجده في بقية المقطع يستخدم صيغة اسم الفاعل ( منفعل ) التي تأتي من الفعل غير الثلاثي , مثل : ( منطرحة , ومنشرحة , ومنجرحة ) , وكلها تدل على المطاوعة والانقياد والموافقة ([3]) , أي على الحدث المتجدد , ولعلَّ الشَّاعر أراد أن ينوع في الأساليب ؛ ليثير اهتمام القارئ , ويشحذ تفكيره ؛ ليشاركه أفكاره ومشاعره .

كما نلاحظ أنَّ بطران اعتمد في كثير من نصوصه على عدة آليات فنيَّة لتشكيل صُّوره الشعرية , فتارة بتنوع الأساليب بين الخبر والإنشاء , وتارة عن طريق الاستعارة وتارة يلجأ إلى التَّشبيه , فنجد الاستعارة في قوله :( ديك شواطئ النيل بالسرور طافحة ) حيث شبَّه شواطئ النيل بفتاة حسناء تمتلئ بالفرح والسرور فحذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه على سبيل الاستعارة المكنية .

وكذلك في قوله : ( لابسة بدر التَّم ) , فشبَّه الشواطئ بفتاة جميلة كأنَّها بدر التَّمام عند ظهوره , فحذف المشبه به أيضًا على سبيل الاستعارة المكنية والقرينة ( لابسة ) , ونفس الاستعارة تتكرر في قوله:( شوف وجوه الروض باسمة ) , و ( تضحك الأزهار ميتة بالفرحة ) , وغيرها من الاستعارات وكلها تدل على قدرة بطران التَّخيلية وبراعته في رسم الصُّورة الشعرية التي تتجلى في تشخيص إحساسه بالجمال , فاختار الاستعارة ليعبِّر بها عمَّا يختلج في صدره ؛ لأنَّ الاستعارة تمنح الكلام قوة , وتكسوه حسنًا ورونقًا , فتركيبها يدل على تناسي التَّشبيه , ويحملك عمدًا على تخيل صورة جديدة , فكأنَّما وظَّف الشَّاعر صوره لتكون السوار الذي يستدير على معصم قصيدته الجميلة .

ثم تأمل معي عزيزي القارئ في  قصيدته الرائعة ( زمن الرَّبيع هَلَّ ) , يقول :

زمن الرَّبيع هلَّ .. وفتح الزَّهر بسام

 من طيب شذاه الفاح .. يتمايل النَّسام

 جات البدور تختال مجلية سافرة لثام

 لابسة السكينة وشاح لابسة الفضيلة وسام

 عزّت على الإدراك ضمت معاني جِسام

 جلَّت عن التَّصوير وصعبت على الرَّسام

نلاحظ في المقطع السَّابق أنَّ الشَّاعر قد رسم لوحةً فنيَّة رائعة , وصُورةً بصريةً زاهية الألوان , وصُورةً شميَّةً مضمَّخة الطِّيب , وصُورةً حركيَّةً واضحة التأثير؛ لما حصل لمظاهر الطَّبيعة عند قدوم فصل الرَّبيع , وحتَّى تكون الصُّورةُ مكتملة الأجزاء نجدُ الشَّاعرَ قد استعان ببعض الصُّور الجزئية , ( فالرَّبيع هلَّ ) , فشبَّه الرَّبيع بإنسان يهلُّ بطلعته فحذف المشبه به على سبيل الاستعارة المكنية , والزَّهرُ استعاد حليته وزينته وتفتحت أكمامه ( وفتح الزَّهر بسام ) حيثُ شبَّه الزهر في تفتحه بإنسان يبتسم فحذف المشبه به على سبيل الاستعارة المكنية , وفاح عطره وانتشر ؛ وتمايل النَّسام , والبدور جاءت تمشي في اختيال ( جات البدور تختال مجلية سافرة لثام ) , فشبه الفتيات بالبدور اللاتي يقبلن مجلياتٍ كاشفاتٍ عن وجوههنَ يمشينَ في اختيال , فحذف المشبه وأبقى المشبه به على سبيل الاستعارة التَّصريحية , وكذلك في قوله ( البدور تختال ) استعار لفظة الاختيال للبدور , فحذف المشبه به على سبيل الاستعارة المكنية , والقرينة التي منعت من إرادة المعنى الحقيقي لفظيَّة هي :

( تختال) , والمحبوبة لبستِ السَّكينة وشاح , وارتدتِ الفضيلة وسام (لابسة السكينة وشاح لابسة الفضيلة وسام ) , فشبه السَّكينة بالثوب الذي يلبس كوشاح , فحذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو كلمة (لابسة) على سبيل الاستعارة المكنية , وكذلك تتكرر نفس الصُّورة في ( لابسة الفضيلة وسام ) , فكأنَّ الشَّاعرَ بهذه الصُّور يريد التَّعبير عن فرحته بالحريَّة التي مَنَحتِ الزَّهر حَقَّ التَّفتح بعد طول الذبول , ويظهر الورد الذي كان مستورًا , فيُعبِّق بطيبه المكان ليتمايل النَّسام , ويستعيد الشَّجر حقَّه باستعادة لباسه بعد أن كان عاريًا ؛ فعزَّتِ الصُّورة وشَرُفَت وارتفعت على الإدراك ؛ فجلَّت عن التَّصوير و صَعُبت بذلك على الرَّسام .

نلاحظ في المقطع السَّابق مدى قدرة الشَّاعر على التَّخيل والإبداع , كما نلمس نوعًا من المزج بين الطبيعة والمشاعر , فلنا أن نتصور ما أثاره فصل الرَّبيع حين هَلَّ من تغيرات في مظاهر الطبيعة لكن الشَّاعر كساها بعاطفته , وتمكن من أن يزاوج بين الذَّاتي (العواطف) , والموضوعي ( الطبيعة) ؛ فجعلنا نعيش التَّجربة معه ونشعر بشعوره . فالصُّورة عند بطران تعتمد على التَّشخيص ومخاطبة الحواس , والتَّماهي في الطبيعة ؛ لذلك نجده في المقطع السَّابق قد زاوج بين الصُّورة البصرية والشَّميَّة والحركيَّة , مما يُوحي بقدرته التَّخيلية العالية التي لا يفوقه فيها أحد من شعراء الحقيبة . أمَّا من ناحية الأسلوب فنجد شاعرنا بطران اعتمد الأسلوب الخبري للتَّقرير والتوكيد , فاستهلَّ قصيدته بالجملة الاسمية وما تمثله من ثبات واستقرار , ولأنَّ ” الاسم يخلو من الزمن ويصلح للدلالة على عدم تجدد الحدث وإعطائه لونًا من الثَّبات ” ([4]) , فالشَّاعر يلجأ استخدام الاسم حينما يريد التَّعبير عن الحاجات التي تحتاج إلى التَّوصيف والتَّثبيت , فلعلَّ الشَّاعر أراد أن يؤكد ثبات الصفات لموصوفه . لكن نفسيَّة الشَّاعر تبدو مضطربة فسرعان ما تحوَّل هذا الثَّبات إلى حركة فعلية طغت على هذا السكون والاستقرار , وأكثر هذه الأفعال دلّتَ على الزمن الماضي :

( جات , عزَّت , ضمَّت , جلَّت , صَعُبت ) , فالماضي يكرس الإخبار والحكي للذكريات السَّالفة مع الزمن .

والخلاصة التي يمكن الخلوص بها انطلاقًا من هذه الشواهد أنَّ الشَّاعر مصطفى بطران وصف الطَّبيعة من خلال أحاسيسه وخلجات نفسه , وأشركها عواطفه ، فجسَّمها وشخَّصها وتماهى فيها ، وليس تفوقه كان في المشاركة الوجدانية للطبيعة فقط , بل في تجديد الصِّياغة الفنيَّة للمعاني والأسلوب ، فاللغة سهلة , لكنَّه استطاع أن يوظفها لتجري على لسانه سلسة عذبة , لها وقع في السَّمع وأدعى إلى تصوير الجمال وإيقاظ النفوس , وإثارة العواطف ؛ فقد اعتمد على وضوح الألفاظ , وترابط الأفكار , وعمق التَّصوير .

وحتَّى جديد اللقاء لكم مني أطيب الأمنيات بقضاء أسعد الأوقات .

[email protected]


المراجع والمصادر :

 ([1]) عرَّفه الزمخشري بقوله : ” اسم الفاعل هو ما يجري على من يفعل فعله , كضارب ومنطلق ومستخرج ومدحرج ” يعتبر هذا أوَّل تعريف واضح لاسم الفاعل . انظر ( المفصَّل في صناعة الإعراب لأبي القاسم جار الله الزمخشري , تحقيق إميل يعقوب , بيروت/دار الكتب ص 279 ) .

  ([2])صفوة التَّفاسير، محمَّد علي الصَّابوني، مكَّة المكرمة: مكتبة جدَّة , 1976 م, 1/277

([3]) الممتع في التَّصريف , علي أبو الحسن ابن عصفور , تحقيق فخر الدين قباوة , حلب ,المكتبة العربية , 1970م ,1/189

 ([4]) أحمد درويش , دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتُّراث , ص153

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..