وفاة مترجم موسم الهجرة للشمال إلي الفرنسية

الجزيرة غيّب الموت الخميس الماضي عبد الوهاب المؤدب، أحد أهم المفكرين والمبدعين التونسيين، وأحد أهم الناشطين في الشأن الثقافي والحقل الأكاديمي في أوروبا بخصوص الثقافة العربية الإسلامية وتحاورها مع ذاتها ومع الثقافات الأخرى.
توفي المؤدب -أو “المدّب” كما ينطق في تونس- ليترك وراءه أكثر من ثلاثين مؤلفًا، تناولت الفكر والثقافة الإسلامية من منطلقات تفكيكية ارتكزت على تحليل الخطاب الداخلي بمخزونه وتناقضاته.
وهدف المؤدب إلى إعادة إلقاء الضوء على الإشكاليات المتراكمة لهذه الثقافة وما احتوته من تضاربات، في إطار مشروعه النقدي الفكري التنويري.
ورغم أن هذه المساهمة في قراءة الموروث الإسلامي وفجواته في إطار نقدي مكنته من حصد جوائز كثيرة كجائزة الدوحة عاصمة للثقافة العربية عن مجمل أعماله، وجائزة فرانسوا مورياك عن كتابه “مرض الإسلام”، وجائزة ماكس جاكوب عن ديوانه الشعري “خامة العصافير”، وجائزة بنيامين فوندان عن كتابه “مواعظ مضادة”، إلا أنه ظل شخصية فكرية خلافية تؤخذ أفكاره بالكثير من الريبة في وطننا العربي، مثله مثل محمد أركون ونصر حامد أبو زيد ومحمد الشرفي، لما تعرفه طروحاته من جرأة في قراءة المقدس وما جاورها من بحوث متعلقة بالتفسير والتأويل.
عائلة عريقة
نشأ عبد الوهاب المؤدب في عائلة تونسية عريقة ومحافظة من أصول موريسكية، وتربى على ترتيل القرآن والتردد على جامع الزيتونة الشهير بالمدينة العتيقة.
“المؤدب يعتبر أن ازدواجيته اللغوية وهوياته المتعددة جعلت منه استثناء داخل المشهد الفرنكفوني ودفعت به ليكون سفيرا للذاكرة الشرقية داخل ذلك الفضاء الأوروبي”
إلا أن هذه النشأة الدينية لم تمنعه من التشبع بالثقافة الغربية في شبابه عندما فتح لنفسه نافذة للمعرفة على أعمال ديدرو وبودلير وأبولينير.
وهذه الثقافة المزدوجة هي ما ميزته بعد ذلك في المشهد الفرنكفوني، عندما اختار باريس مقرا له، حيث كان يتقن العربية والفرنسية بنفس الدرجة تقريبا، إلى جانب اطلاعه على الثقافة الشرقية بقدر اطلاعه على الثقافة الغربية.
ويعتبر المؤدب أن ازدواجيته اللغوية وهوياته المتعددة (عربي وأوروبي وتونسي وفرنسي) جعلت منه استثناء داخل المشهد الفرنكفوني ودفعت به ليكون سفيرا للذاكرة الشرقية داخل ذلك الفضاء الأوروبي، شأنه شأن صاحب “الهويات القاتلة” أمين معلوف في الأدب.
المبدع والمفكر
عُرف المؤدب الذي توفي يوم الخميس السادس من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري في العاصمة الفرنسية باريس عن سن يناهز 68 عاما، شاعرا ومثقفا تونسيا بالمهجر، ولكنه كان كذلك أستاذا جامعيا برتبة أستاذ محاضر بجامعة باريس نانتير، وهو مختص بالأدب المقارن والدراسات الفرنكفونية.

وكان المؤدب جامعيا مرموقا وأستاذا زائرا بجامعات يال الأميركية وجنيف السويسرية وفلورنسا الإيطالية.
“المؤدب انشغل بترجمة مؤلفات بعض المتصوفة الفرس مثل شهاب الدين السهروردي وأبو يزيد البسطامي، إيمانا منه بأهمية الترجمة في تكريس التواصل الثقافي الخلاق ومناهضة التعصب الفكري”
وناقش المفكر التونسي سنة 1991 -ولو بشكل متأخر نسبيا- أطروحته للدكتوراه في الأدب المقارن تحت عنوان “الكتابة والجينيالوجيا المزدوجة”، وهي المسألة التي مثلت في مشروعه الفكري الخيط الناظم لجميع نصوصه إلى حدود سنة 2002، قبل أن يعمق المؤدب صياغتها ودراستها من خلال رهانات المعاصرة بين الشرق والغرب.
لم تقتصر إسهامات المؤدب الفكرية على الشعر والرواية -وهي من الأجناس الأدبية التي كتب فيها الفقيد واعتنى بها ترجمة وتدريسا وتحليلا- بل امتدت إلى مجالات الكتابة أو المحاولة النقدية، والتي مكنت المؤدب من صياغة مستحدثة لتقليد “أدب العالم” الألماني، من خلال تسليط الضوء على الخلفيات التنويرية التي تمخضت عنها في التراث العربي الإسلامي نصوص ابن عربي نموذجا.
وانشغل المؤدب بترجمة مؤلفات بعض المتصوفة الفرس مثل شهاب الدين السهروردي وأبو يزيد البسطامي، إيمانا منه بأهمية الترجمة في تكريس التواصل الثقافي الخلاق ومناهضة التعصب الفكري، ولكنه ترجم كذلك إلى الفرنسية رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للروائي السوداني الطيب صالح.
كما اهتم بالمتصوفة والشعراء العرب القدامى والفرس، وتركز ذلك في النموذج المقارن الذي بلوره بين ابن عربي ودانتي: نموذج التقاطع الثقافي الذي تنتجه روافد الحداثة الفكرية من رحم الثقافتين العربية الإسلامية والغربية، وهو النموذج الذي يمنح نصوصه خصوصية الالتزام الفكري الحداثي والتنويري باعتباره التزاما ينهض ضد الرجعية والعنف الدينيين.
ومن رواياته فانتازيا (1986)، والغزالة والطفل (1992)، ومحطات يال التسعة والتسعون (1995).
ومن محاولاته النقدية التي ترجمت إلى أكثر من عشر لغات أجنبية لأهمية الطرح النقدي الذي تبلوره لمسألة الغرب والإسلام المعاصر وإمكانيات التنوير الذي يحتمله: المنفى الغربي (2005)، والإسلام نصيب الكوني (2006)، والخروج من اللعنة.. الإسلام بين الحضارة والهمجية (2007)، كما كتب المؤدب في التاريخ المعاصر بالاشتراك مع مؤرخين فرنسيين بارزين مثل بنيامين ستورا وكوليت فلوس.
وقد تنقل المؤدب بين حقول معرفية شتى منها النشر والتعليم، فقد عرفته الساحتان العربية والفرنسية ناشرا مع دار سندباد التي تعنى بالآداب الشرقية، كما أشرف لمدة طويلة على المجلة الدولية “ديدال” الناطقة باللغة الفرنسية، والتي كان قد أطلقها منذ 1993 قبل أن يلتحق بالتدريس والاهتمام بالأدب المقارن وتاريخ الفن.
وتمحورت بحوثه أساسا حول إشكالية الإسلام والغرب منذ العصر الوسيط إلى الرحلات الاستشراقية خلال القرن الـ19. كما تركز جانب كبير من نصوصه على علاقات الشمال والجنوب من خلال التفاعلات الحضارية والجمالية التي تكرست في السياق الكولونيالي في القرنين الـ18 و19، واستتباعاتها الأيديولوجية في مرحلة ما بعد الاستقلال.
وتندرج إسهامات المؤدب في دراسة الآداب الفرنكفونية المقارنة في إطار هذين المحورين في الأساس، لا بما ينتج باللغتين الإنجليزية والإسبانية في آداب المهجر فحسب، بل في ثقافات الشرق الأدنى أيضا.
المنهج والمشروع
ينتهج عبد الوهاب المؤدب في بحوثه منهجا “جينيالوجيا” عابرا للتاريخ والنصوص والثقافات، مستعينا بأدوات النقد الثقافي لبلورة شعرية وجمالية مخصوصتين: “شعرية العبور والترحال” التي لا تعترف بالقوالب الجاهزة، وجمالية “عابرة للفنون” لا تعتني بالنص الأدبي إلا بالقدر الذي تضيئه الفنون التشكيلية وتعيد صياغة رهاناته مع بقية الممارسات الفنية المعاصرة له.
“سؤال المعاصرة هو الذي دفع بحوث عبد الوهاب المؤدب إلى محاورة نصوص ومشاريع فكرية غربية معاصرة من أهمها أعمال الفلاسفة المعاصرين جورجيو آغامبان وأنطونيو نيغري وآلان باديو وجون ليك نانسي”
والمتأمل في مدونة عبد الوهاب المؤدب يلاحظ أن السؤال الرئيسي الذي ينظم خيوط مشروعه الفكري، على اختلاف مجالاته البحثية وثراء آفاقه وتنوع أدواته هو سؤال المعاصرة: ماذا يعني أن يكون عرب اليوم عاجزين عن معاصرة العالم، أي أنفسهم؟
سؤال المعاصرة -إذن- هو الذي دفع بحوث عبد الوهاب المؤدب إلى محاورة نصوص ومشاريع فكرية غربية معاصرة لم يفتأ المؤدب يصغي لها ويرافقها بقراءاته النقدية، من أهمها أعمال الفلاسفة المعاصرين جورجيو آغامبان وأنطونيو نيغري وآلان باديو وجون ليك نانسي.
وقد ظل المؤدب وفيا لفكرة التجاور والتحاور بين الثقافات، ولذلك لا يجد حرجا من مقارنة ابن العربي -المفكر والمفسر والشاعر- بدانتي صاحب الكوميديا الإلهية الذي وُلد في السنة نفسها التي توفي فيها ابن عربي.
المفكر المُرتاب
ظل المؤدب مفكرًا محل ريبة ولا تستقبل كتاباته الفكرية -وحتى السياسية- بالكثير من الحفاوة في الوطن العربي، فسرعان ما يثار حول مؤلفه وابلٌ من النقد، بعضه موجه للأفكار وكثيره موجه للشخص، فهو إما معادٍ للإسلام من قبل البعض أو أن أفكاره غير أصيلة ولا مجددة، كما يقول السيد ولد أباه، وقد سبقه إليها محمد أركون، وأن المؤدب ليس سوى واحد من الذين خرجوا من عباءته مثله مثل عبد المجيد الشرفي أو مالك شبل أو رشيد بنزين.
وتبقى الفكرة الأكثر شبهة عند المفكرين الإسلاميين ما ردده في بعض مؤلفاته من ضرورة مراجعة فكرة “خلق القرآن” عند المعتزلة إذا أريد للإسلام أن يتخلص من طابعه الأصولي ويدخل التفكير الإسلامي مرحلة التنوير.
“ضمّن المؤدب أفكاره في مؤلفات أشهرها ما سماه “مرض الإسلام” الذي يرى ضرورة تخليصه من “الميتافيزيقيات” الكبرى لحمايته من السقوط في التأويلات المتطرفة التي أرجع إليها أصل التخلف والتعصب والجمود”
وقد ضمّن عبد الوهاب المؤدب هذه الفكرة في مؤلفات أشهرها ما سماه “مرض الإسلام”، الذي يرى ضرورة تخليصه من “الميتافزيقيات” الكبرى لحمايته من السقوط في التأويلات المتطرفة التي أرجع إليها أصل التخلف والتعصب والجمود.
ويؤكد في أكثر من موضع على الأصول اليهودية للإسلام، حتى أنه صرح في أحد الحوارات قائلا “إنني أذكر كل مسلم بأن الإسلام هو وليد اليهودية، وبأن اليهود لا يمكن أن يكونوا أعداءنا لأنهم آباؤنا”.
وتشكل هذه الأفكار الصادمة -وبعضها رائج- مأزقًا معرفيا وعقديا عندما تأتي من مفكر كبير ومعروف مثله، مما دفع باحثا مغربيا مثل أحمد القديدي إلى اعتباره قد مرّ في مشروعه من لحظة التنوير إلى لحظة التدمير واعتبره يغازل بتصريحاته حول الإسلام اليمين المتطرف في الغرب، وقد وصل به الأمر إلى التشكيك في علمية خطابه.
الثورة التونسية
لم يقف عبد الوهاب المؤدب صامتا أمام الانتفاضات العربية، وخاصة التونسية، واجترح لنفسه تلك المشروعية بصفته تونسيًا مقارنة بنظيره المغربي الطاهر بن جلون ومن حقه محاولة فهم ما جرى في تونس وتفكيكه وتحليله، ولم يتسرع مثل بن جلون الذي كتب كتابه عن البوعزيزي في الشهر الأول من الثورة التونسية.
وظل المؤدب يتابع هذا الحراك الشعبي قبل الكتابة، وتوصل في كتابه إلى أن “شعب الإسلام” أثبت أنه قادر على الثورة وقلب الأنظمة “الشمولية” مثله مثل بقية الشعوب الأخرى اليهودية والمسيحية، ولكنه يستدرك فيوضح أن هذا الشعب التونسي لم يطح بالديكتاتور بخلفية إسلامية، بل بمكتسبات هذا الشعب من الثقافات الأخرى.
رحل عبد الوهاب المؤدب وترك أسئلته معلقة، كما رحل من قبله فرسان التنوير المعاصر مثل محمد أركون ونصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري، ليبقى السؤال الأكثر حرجا هو: هل ما زال المشهد الثقافي العربي اليوم قادرا -براهنه المأزوم- على إنتاج عقول جريئة بذلك المستوى؟
ا

تعليق واحد

  1. الف رحمة عليه وفاة مترجم تمثل بالنسبة لي الم خاص وبموته تدفن معه مفردات لغات مختلفة نسأل الله له الرحمة والمغفرة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..