عاد الزعيم المنتظر أم لم يعد!

تعرفت على شاعرنا الكبير صديق مدثر، رحمه الله، قبل رحيله المر بأيام قلائل؛ إذ اتحفني الإخوة الكرام في رابطة الإعلاميين بالرياض وكلفوني أن استضيفه في ليلة شعرية ضمن برنامج منتدى الرابطة، وخلال تلك الفترة الوجيزة نشأت بيننا علاقة ود عميقة؛ نظراً لما كان الراحل الكبير يتمتع به من حنان ولطف أبوي غمرني به ونحن نعد لتلك الليلة التي لا يزال الجميع هنا يذكرها ويردد ما قيل فيها من شعر راقٍ وجميل؛ خاصة كلمات أغنيته التي شدا بها إمبراطور الأغنية السودانية الراحل أيضاً محمد وردي، عليه الرحمة، وأعني قصيدته “الحبيب العائد” التي يقول فيها:
عاد الحبيب
فعادت روحي وعاد شبابي
يا شوق مالك؟ دعني
أما كفاك عذابي
لقد شربت دموعي
أما سئمت شرابي؟
ولا أدري لماذا تذكرت تلك الليلة الشعرية الخالدة، وخاصة القصيدة المشار إليها أعلاه، وأنا أطالع خبراً أوردته صحيفة “آخر لحظة” مفاده أن رئيس اللجنة العليا لاستقبال رئيس حزب الأمة الصادق المهدي، اللواء فضل الله برمة ناصر، قد أكد أن حزبه لا يخشى اعتقال رئيسه الذي سيعود للبلاد وقال: (لا نخشى اعتقال الصادق والسمك ما بهددو بالغرق). ولعل أكثر ما لفت نظري في الخبر ليس القطع بعودة الإمام الغائب التي ظللنا نسمع عنها، وتشكل من أجلها اللجان من حين لآخر، دون أن يعود الزعيم والإمام وتذهب الوعود “شمار في مرقة” وإنما قول سعادة اللواء إن “السمك ما بهددو بالغرق”. وهو بذلك يتتبع خطى إمامه وزعيم حزبه حذو القذة بالقذة، ويستخدم ذات الأسلوب الذي يستخدمه الحبيب الأكبر؛ فقد درج سيد صادق، كما تقول زميلتنا الأديبة والكاتبة ملكة الفاضل عمر، على أطلاق مثل هذه العبارات كقوله: إن الوضع في السودان “بقي جنازة بحر” أو كما يقول في موقف آخر معلقاً على انضمام بعض الأحزاب للحوار والمشاركة في الحكم: أكلوا الفطيسة والضبيحة جاية”. وكل هذه إنما هي عبارات وأمثال شعبية دارجة جداً لا تقدم ولا تؤخر في عالم السياسة والتناول الإعلامي، ولا تليق بمقام رجل مثل الصادق المهدي الذي، كما نعلم، قد أوتي ناصية البيان والفصاحة منذ نعومة أظفاره فهو من الذين ولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب واتيحت له فرصة تلقي العلم على يد نخبة من كبار علماء العربية من أمثال الشيخ الطيب السراج. وتلقى سيد صادق، من جانب آخر، تعليماً راقياً في جامعة الخرطوم والجامعات البريطانية، إلا أنه مع ذلك ظل يردد مثل هذه العبارات؛ إما لأنه يريد التقرب من أتباعه الذين يتلقفون كلماته مثلما يفعل اللواء برمة أو أن ذوقه قد فسد بمجالسة العوام. وبما أن الشيء بالشيء يذكر يا سعادتك لماذا لم تحور المثل الذي استخدمته بحق الإمام وتقول مثلاً ” التمساح ما بهددو بالغرق ” ولو أنك فعلت ذلك لاصطدت عصفورين بحجر؛ أي كان من الممكن أن تحافظ على مقصود المثل وفي ذات الوقت تأتي بكلمة تليق بمقام الإمام؛ لأن التمساح يعرف “العوم” ويمكن أن يعيش في البر وهو أيضاً رمز للقوة والشجاعة في الثقافة السودانية. وأنت تعلم قبل غيرك أن الإمام المنتظر ظل طوال عمره الذي تجاوز الثمانين عاماً يعتقد أنه الرجل الأقوى في الساحة السياسية في هذا البلد الذي أرهقه التمسك والتفاخر بمعطيات الماضي مع تجاهل كامل لما يدور ويحدث في عصر الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المتغيرات التي طرأت على حياة الناس داخلياً وخارجياً وصارت تمثل تحدٍ مستعصياً لكثير من الأجيال العتيقة التي لا تزال تصر على حمل الراية بعد أن وهن العظم منها واشتعل الرأس شيباً وتجاوزتها الأحداث! عموماً، هل تعتقد يا سيادة اللواء برمة أنه بعودة الإمام ستعود الروح إلى حزب الأمة، كما عادت إلى صديق مدثر؟ يا سعادتك لعلك تعلم كما يعلم كثيرون غيرك أن زعيم الأنصار قد أمضى جل عمره السياسي معارضاً للأنظمة منذ أيام عبود ومروراً بمايو وانتهاء بعهد الإنقاذ، ولكنه في كل الأحوال لم يفلح في تحقيق ما يطمح إليه من إرساء دعائم الديمقراطية التي سوف تمكن له هو شخصياً ليكون رجل السودان الأول ناسياً أن الطائفية لم تعد بتلك القوة والزخم الذي من شأنه أن يجعل سكان المناطق النائية أو حتى سكان الجزيرة أبا نفسها يصوتون لأي من مرشحي الحزب بمجرد إشارة أو أن يجعل الناخبين ” يأكلوا تورهم ويدوا زولهم”، لا يا ساعدتك أرجو أن تبلغ الزعيم المنتظر بأن هذا العهد قد ولي ومضي ولا أحسبه يعود سواء عاد السيد الصادق أم لم يعد؛ فهذه طبيعة الأشياء وسنة الله في خلقه؛ إذ لا شيء في الكون ثابت إلا فكر بعض الأحزاب السودانية التي ظلت رهينة لماضيها دون تجديد.
عفواً كنت أود أن أبدأ هذا المقال بقول الشاعر:
بعد الغياب، بعد الليالي المرة في حضن العذاب
عاد الإمام المنتظر عوداً حميداً مستطاب!

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. يبدو عليك القلق من عودته يا استاذنا..رغم ان الزمن تجاوز ايضا اطروحات الحركة الإسلاموية “ودفسها” في التراب..اكتب لنا بفصاحتك المعهودة عن 28 العجاف دي..مع تحياتي..

  2. يبدو عليك القلق من عودته يا استاذنا..رغم ان الزمن تجاوز ايضا اطروحات الحركة الإسلاموية “ودفسها” في التراب..اكتب لنا بفصاحتك المعهودة عن 28 العجاف دي..مع تحياتي..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..