إغتيال سلمان (2) قصة حقيقية

دخلت خلفه الى كبجك، ما أدهشني أنني لم أكن خائفا أو مكترثا ،تبعت العسكري الذي كان يمشي متباهيا، كان يخرج من جيبه الخلفي منديلا يمسح به حذائه ثم يضعه في جيبه ثم يتفل يمينه على نحو غير لائق وينظر إلي نظرة يملؤها الإحتقار ويبتسم بسخرية غير مريحة كأنه يخفي أمرا.
قادني عبر سرداب طويل، حوائطه مطلية باللون الأزرق وبشريط ابيض على الحواف، مما يجعل المكان أشبه بمدرسة إبتدائية منه الى قسم شرطة و على أمتداد الحوائط رصت مقاعد حديدية متهالكة وقديمة يجلس عليها بعض المواطنين تبدو عليهم علامات الرهق والبؤس وكان الصمت سيدهم، وهم له خاضعون، الا من هتافات نابئة تأتي من آخر الممر من احد العساكر و هو ينادي احد المحتجزين في الحراسة ذهب ليقضي حاجته وتأخر لأسباب فنية تتعلق بآليات العملية نفسها:
– سريع ياخي .. إنت ماشايف صاحبك ده ماشي برضو؟
وعندما ظهر المنادى كان شابا ناحلا تبدو عليه علامات الإعياء والتعب، فكرت فيما يمكن أن يكون قد فعله هذا في بلاد حتى الجريمة فيها حكر عليهم هم (…)، ولا يدخل حراساتها الا صغار المجرمين أو المعسرين ولكن القطط السمان لا أحد يستطيع أن يحدثها عن شئ اسمه القانون.
قادني العسكري الى غرفة خالية الا من ثلاث مقاعد في منتصفها تماما ويجلس امامي إثنان أحدهما يرتدي زي عسكري، أسمر، نحيف، عيناه ضيقتان كعيني صقر وعظام وجهه بارزة، نظر إلي نظرة محايدة ، عرفت من الشارة الموجودة على قميصه العسكري الرسمي أن أسمه عبد الفتاح سليمان.. النقيب عبد الفتاح سليمان، والى جواره رجل ضخم الجثة، تبدو على ملامحه الدعة والترف، قمحي اللون، له نظرة وادعة بريئة، حياني باسما وعرفني بنفسه وقال لي بأن اسمه أبو القعقاع .. ضحكت بتلقائيه وقلت له : اسمك جميل وجديد والسودانيين عادة لا يقعقعون الاسماء
ضحك بمودة وقال لي: الصحابة رضوان الله عليه يفعلون، الم تسمع بالقعقاع في التاريخ الإسلامي أم إنك لا تقرؤه؟
– أنا أعشق التاريخ الإسلامي أستلهم منه العبر وأتعلم منه كيف جاهد الأوائل ليمكنوا لنا دين الله الذي أرتضاه لعباده
– نعم ياهود، أنت رجل صالح متدين و محترم..! نحن الآن أيضا نحاول أن نعيد سيرة الأولين، بتمكين دين الله في الأرض ونشر تعاليمه بين الناس
الله يارب…!!
يريد أن يعيد سيرة الأولين،،لهذا قتل مريوم وهي تحمل طفلا و تركض من قصف الأنتنوف تطمح الى بلوغ كهوف الجبل المظلمة التي ربما تؤوي الأفاعي وهوام البرية .. مريم فضلت الأفاعي على هؤلاء الصحابة الجدد الذين يقصفون الآمنين في قراهم الآمنة البعيدة .. هل السمرة هي ما يعيب مريم وطفلها.. مريم حبيبتي، والله لو وزعت دمها على كل هؤلاء الكلاب ما كفاني..
فاجأني بالسؤال بصورة روتينية:
– اسمك بالكامل، قبيلتك ، تاريخ ومكان الميلاد، علاقتك بالميت
– اسمي هود كمال الدين، جعفري، من مواليد الابيض 1990، المرحوم زميلي في كلية التربية ? جامعة الخرطوم
– الجعافرة هم يعيشون في النيل الأبيض، الدويم كوستي ربك
– لا ياسيدي الجعافرة قبيلة كبيرة وهي تعمل في الغالب بالتجارة وخصوصا تجارة الابل والمعدات الثقيلة وغيرها وهم موجودون في كردفان منذ أكثر من مائة عام في ام روابة والابيض وابوجبيهة وكادوقلي وغيرها و…. قاطعني بصورة فجة:
– ماذا حدث ياهود؟
– الذي حدث ياسيدي أن سلمان زميلي في الجامعة قد إقتادته مجموعة مجهولة بواسطة سيارة بوكسي تويوتا بدون لوحات من يومين من امام بوابة الكلية أمام مرأى ومسمع مننا وأبلغنا قسم الشرطة هنا عن إختفائه ووعدتم بالبحث عنه وبعد يومين وجدناه ملقيا على الركام خلف الكلية وعليه آثار كي وتقليع أظافر وضرب وطعن في الفخذين .. يبدو أنه تعرض لعملية تعذيب قاسية أدت الى وفاته
نظر إلي ابو القعقاع مليا، ثم تقدم مني حتى كاد وجهه أن يلامس وجهي، همس لي بوعيد:
– هل أنت متأكد مما تقول ؟
– نعم، تمام التأكيد ياسيدي
أمسكني ابو القعقاع من ياقة قميصي وحملني وألقى بي لمترين حتى أرتطم رأسي بالحائط المقابل وصرخ بصورة هيستيرية :
– ده كلام فارغ..!!
ثم أبتسم ابتسامة أدهشتني، ثم قال لي مقهقها:
– لاحول ولا قوة الا بالله، ياهود عليك الله إتكلم كلام منطقي، سيارة بدون لوحات تخطف طالب من شارع عام وتقتله وترميه هكذا ببساطة.. معقول الكلام ده؟ القال ليك كدة منو؟ الشيوعيين ديل كذابين ما تصدق كل ما تسمع يا هود، خليك كبير ياخي..!!
أيقنت بأنني أمام إنسان مختل عقلياً.. لا يستطيع حتى التحكم في إنفعالاته، ولكنني قررت أن أحاول مجاراته للخروج من هذا المكان الملعون
– ياسيدي أنا لم أسمع من أحد، هذا مارأيته بأم عيني، لم يحدثني أحد، وأنا اقدم إفادتي رغبة في إيجاد القتلة و محاكمتهم
– طبعا .. طبعا.. أنا أحب العدل والديمقراطية مثلك تماما يا هود، انت ديمقراطي مش كدة؟
– أنا شاهد في مقتل الطالب سلمان حمدون ياسيدي ليس أكثر
– أيوااااااااا.. انت بتتلاعب بي ..هه..!!
ثم إلتفت الى النقيب عبد الفتاح سليمان وقال له بلهجة آمرة:
– أكتب .. حضر الشاهد هود كمال الدين المشار إليه أعلاه وأقر بأن الطالب كان يرتاد أماكن السكر والدعارة في حي القماير بامدرمان وبأن له علاقات جنسية مع العديد من النساء المتزوجات وأنه من المرجح أن ما حدث كان نتيجة لإحدى مغامراته تلك أو من مضاعفات الكحول الذي ربما يكون قد إختلط بمواد سامة أو ماشابه .. هذا ما سيحدده تقرير الطب العدلي
– أنا لم أقل ذلك، ياسيدي ثم أن سلمان حمدون صديقي المقرب وهو لا يقرب الخمر ولا النساء وليس له صلة بهذه الأشياء من قريب ولا من بعيد، فهو رجل حمامة مسجد ومتميز أكاديمياً
– شوف يا هود أن بنصحك أنت ود عرب وديل غرابة .. عبيد ساكت..مالك شابك نفسك في قصصهم، أبعد من المشاكل وخليك في حالك .. ديل لو ما عملنا ليهم كدة كان ركبوا فوقكم.. فهمت ؟؟
أحسست بالدم يغلي في عروقي وبكل كره الدنيا أجبته:
– لا مافهمت يا ابو القعقاع أو أيا يكن أسمك.. ثم انت من وين؟ هكذا تريد أن تمكن لشرع الله في الارض وتعيد سيرة الأولين؟ ألم تسمع قول النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: ليس لعربي على عجمي فضل الا بالتقوى؟ ولكنك لا تعلم تدعي التدين، أنت و أمثالك من أقذر البشر تقتلون وتلفقون التهم للأبرياء … أنتم العبيد .. عبيد الفرج والبطن والسلطة، انت عبد يا ابو القعقاع و منافق .. وأقول ليك حاجة؟ ملعون أبوكم واحد واحد..!!
فاجأني بإبتسامة هادئة ورد علي ببرود شديد:
– ياهود ياصديقي، أنت لا تعرف عن قسوتنا الا النذر اليسير.. إحترم نفسك وحافظ علي نفسك وعلي أسرتك والدتك مريضة وممكن تموت ببساطة و .. نحن الحكومة دي يا خوي جبناها بي دم الشهداء وما بنخليها للصعاليق والعبيد يجوا يركبونا.. فهمت؟
– يا ابو القعقاع الوطن للجميع ومن حق أي زول يحكم.. ومن حق أي زول يعتقد ويفكر ويطمح .. دي بلدنا يا اخي ..!! ثم الزول المات ده صديقي يجب أن يكون التحقيق شفافا وأن تشطب الكلام الفارغ الكاتبو ده وتبدأ بما يرضي الله
– يبدو لي يا هود إنك ما بتفهم ومحتاج نفهمك
اتجه الى الباب وفتحه مناديا
– ياعسكري.!!
جاء شاب حليق بزي مدني فبادره :
– الزول ده فسحوهو
قادوني الى غرفة أخرى خالية تماما لا يوجد بها أثاث على الإطلاق، جلست لدقائق ثم فتح الباب ودخل أربعة شباب مفتولي العضلات
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..