أسس النهضة السودانية ( مساهمة أولية في حوار المستقبل )

في القرن العشرين رأينا كيف نهضت الكثير من الدول التي كانت متعثرة , وترسف في الفقر , والديون , والاضطرابات . نهضت الهند ونهضت البرازيل ونهضت دول جنوب شرق آسيا ونهضت تركيا , وما من نهضة حدثت في تلك الدول وغيرها وكانت مجزأة أو كانت طبقية أو كانت إقصائية , فعنوان النهضة الأول هو المشاركة والشمول .
لم تحدث تنمية أو نهضة في القرن العشرين أو في غيره من القرون والدولة في جهة , والمجتمع في جهة أخرى , وما من فجوة بينهما إلا وكانت نتيجتها الحتمية القطعية التعثر والفقر والتفكك , وما من شيء يربط الدولة بالمجتمع ويجعلهما معا مصدرا للطاقة الحيوية الدافعة والتقدم الحثيث سوى العدل الاجتماعي والرعاية المتأنية الدقيقة لكل صاحب حق أو حاجة أو مستقبل أو فكرة . وإذا كانت الدولة مطالبة بخدمة المجتمع فإنها لن تفعل ذلك إلا لكي تحقق العدل ولن تخدمه إلا بالعدل .
الدول التي نهضت اعتنت بالفقراء , وابتدعت سياسات لتحقيق الأمان والضمان لكل فئات المجتمع , وليس لفئة واحدة , أو جماعة أو حزب , اعتنت بالمسنين , والمحتاجين , والعاطلين عن العمل , والأطفال , وربات البيوت .
الدول التي نهضت اهتمت بمصادر الخدمات , ووسعت من قدراتها وفعلت من سرعتها وكفاءتها , وجعلت من قاعدة الحكم المحلي بساطا لنشر الخدمة , واعترفت بمنظمات المجتمع المدني كرافد من روافد الدولة في خدمة من يستحق , ووسعت من القطاع الخاص كأداة وذراع حكومي واجتماعي لتحقيق شمول الخدمات وسرعة البناء .
ما من دولة نهضت نهضة شاملة إلا ومنعت التمييز ليس بين دين ودين وعرق وآخر وحسب وإنما بين صاحب الإعاقة البدنية والآخر الصحيح , وصاحب الإعاقة الذهنية وغيره ممن هم في مثل عمره فوفرت لوازم تحسين المعيشة والمدارس وفرضت لهم القروض والإعفاء من الضرائب وغير ذلك . فمن لوازم النهوض المجتمعي توفير القروض لكل صاحب مشروع صغير , متوسط , وكبير .
النهضة دائما شاملة , و النهضة دائما اجتماعية , والنهضة دائما ذات اهتمام خاص بعيوب السكان , فهي لا تهتم فقط بتحديث الجيوش والشرطة وإنما كذلك بمشاريع أطفال الشوارع والمتسولين , والمشردين , كما يحدث في البرازيل والهند .
كل الدول التي نهضت وكانت أيضا تطبق نظام السوق الحر كانت تقوم أيضا بدعم القطاعات الفعالة اجتماعيا والقطاعات التي تحرك الاقتصاد اليومي وتصنع حيوية داخل الحراك الاجتماعي الاقتصادي مثل دعم المعاشات والأجور والطلاب وبرامج مكافحة البطالة . كل الدول التي حققت نموا جيدا كان الدعم ومخصصات الحياة الاجتماعية يساهمان في صنع النهضة والتحريك والحيوية ويضخم من العائد للخزينة العامة , وينعش القطاعات المتداعية التي تعجز عن الاستهلاك والمساهمة به إلى أعلى المستويات في تطوير الحراك الاقتصادي .
في تلك الدول التي اندفعت إلى الأمام بقوة غير متوقعة كانت الدولة لا تنزوي ولا تظهر كبائع أو شاري أو صاحب مال بل برزت ظاهرة تخلي الدول عن بعض العائد من أجل إنعاش قطاع يحتاج للدعم الحكومي مثل ما حدث في تركيا عندما قدمت ( وقودا) بدون ضرائب من أجل دعم ( النقل البحري ) . وكذلك دعمت وقود المزارعين .
سر النهضة دائما في المنافسة الحرة , في الاختيار الرشيد بين البدائل , في الخصخصة الضخمة التي حدثت في كل دولة ناهضة , في القطاع الخاص الذي يحمل مؤسسات الدولة المكبلة بالفساد وسوء الإدارة والعمالة الفائضة على ظهره بكفاءة عالية واقتدار , فيشارك في المشاريع الكبيرة كإدارة المواني ذاتيا وإنشاء شركات الطيران الخاصة والسكة الحديد . ومع ريادة القطاع الخاص فبعض الدول لا تتخلى عن قطاعها العام كله بل تترك جانبا مهما من الاقتصاد والمشاريع في يدها حتى تتم عملية التوجيه النهائية . ولا تقوم إلا بخصخصة المشاريع الخاسرة .
سر النهضة هي وصفة الاقتصادي القديم آدم سميث في كتاب ثروة الأمم ,أن تترك الشعب يعمل ,وأن تشجعه الدولة , تسهل له الطريق وتمهد له العقبات , تدعمه , وتقف بجانبه .
الدول التي اندفعت بسكانها واقتصادها إلى الأمام وحققت المعجزات كانت لا تتوقف إطلاقا عن إقراض السكان من أجل العمل والإنتاج وتسهيل ذلك , فالنمو الاقتصادي لا يتحقق إلا بزيادة العمل وتنويعه وبزيادة التوظيف الذي يخلق التصدير , فلا توجد قوة يمكن أن تحرك اقتصادا راكدا ومتعثرا أكبر من قوة الاقتصاد الخاص .
لا توجد دولة واحدة في القرن العشرين وضعت أقدامها في سلم التطور دون أن تحارب ( الفساد ) لأنها بذلك يمكن وبسهولة أن توازن بين وارداتها ومصروفاتها وإذا حدث ذلك فالدولة تصبح (قوية ) وبذلك تقود النمو , وتحقق الاستقرار الاقتصادي , وتشارك الشعب في قوتها , وتحقق السمعة الحسنة لشعبها وشركاتها , وإذا حدث العكس أي صارت الدولة ثرية بشكل أو آخر وصار الشعب فقيرا ومعدما فسيكون الأفق الاقتصادي مسدودا وستتسع الفجوة بين الدولة والشعب وعاجلا أم آجلا لا بد أن يتسع الفتق ويحدث تغيير ما .
أي دولة عزلت بعض القطاعات وقللت من أمرها خاصة في تلك القطاعات كثيفة التشغيل وقادرة على حل مشاكل العمل أو المساهمة في التنمية لأي أسباب سياسية أو جهوية أو مصلحية فإنها تضعف الجوانب الأخرى وبالتالي تهتز كل العملية التي يجب أن تقود إلى نهوض شامل فأي عزل لأي عمل يعني عزل لمواطنين وينتج عن ذلك عدم استقرار يقود إلى المعارضة . فالنهضة لا تحدث بأي سبيل إلا بتوسيع العملية الاقتصادية والاجتماعية أفقيا ورأسيا وتوسيع وزيادة حجم الموجودات .
أثبتت لنا اقتصادات الدول الناشئة أن الاقتصاد في جوهره هو الناس , فهو يتحسن وينمو , بنمو وتحسن أحوال الناس , وبزيادة قدرتهم على الاستهلاك والشغل , فما من اقتصاد تجرأ على القروض والدعم والتسهيلات للصناعة وغيرها وخفض الفوائد المصرفية حين الحاجة وتقدم لإعفاء ديون المواطنين في فترة من الفترات كديون التأمين الصحي أو الضمان الاجتماعي أو التأمينات , إلا وتضاعف فيه دخل الفرد , ومع هذا التضاعف يزيد الصادر , وتحدث الحيوية الاجتماعي الضرورية للنهوض .
النهضة لا تحدث فجأة وإنما تحدث على مراحل قد تمتد إلى أكثر من نصف قرن , وتخلق في تلك الأثناء ثقافة عريضة في بناء الدولة تؤهلها لقفزاتها الأخيرة وتهيئ لها القوانين والدستور والشعب المدرب والأحزاب السياسية . كل الشعوب التي نهضت في القرن العشرين كانت تتحاور وتتجادل , فالحوار أساس الديمقراطية وأساس التعدد الحزبي وأساس التبادل السلمي للسلطة . وبدون حوار لا تنشأ ثقافة بناء الدولة .
أكبر دعامات النهضة المجتمعية إلى جانب المشاركة الشعبية وتقارب الدولة من هموم السكان , هو التعليم , فقد قامت دولة مثل تركيا بإلغاء المناهج التعليمية المستندة إلى الحفظ والاستظهار والتلقين وأقامت محلها مناهج حديثة تدفع التلاميذ إلى التفكير والتعلم الذاتي واستخدام المنطق والعقلانية وقامت بدعم الطلبة الجامعيين بالمنح ودعمت الداخليات الدراسية بالغذاء وزادت الجامعات من 76 جامعة إلى 162 جامعة في غضون عشر سنوات ورفعت مستوياتها إلى عالمية بزيادة ميزانيتها من 2,5 مليار ليرة إلى 11,5 مليار ليرة . فلا نهضة بغير تغييرات جذرية حقيقية تبتدعها الدولة وتتابعها حتى آخر نتائجها.
أدركت كل الدول التي نهضت واستقرت وحلت مشاكل قومياتها أن النهوض علم قبل أن يكون عملا , وأنه نظرية وفكرة يجتمع عليها الجميع قبل أن تكون تطبيقا يفرق بينهم وأن الهوية الشعبية والحرية لابد أن تنسجما مع هوية وحرية النهضة , ومع أن كل الدول التي تحركت باقتصادها وشعوبها نظرت إلى أوربا وأخذت منها إلا أنها نظرت كذلك إلى قدراتها الذاتية وإلى مواردها المحلية , وإلى شعوبها ومواطنيها , فالمجتمعات التي لا تستفيد من ثروتها (( البشرية )) محكوم عليها بفقدان حظها في المنافسة والتقدم .

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..