
عن الهادي الجبل، قال: سألني خطاب حسن أحمد قال لي:
هل حصل لسعتك نحلة؟
قلت ليه: لا .. بتعمل شنو؟؟
قال لي: بتعمل مهرجان في الدم.
وسمي ذلك حديث أسباب العسل..
بدأ المهرجان عند الثانية ظهرا تقريبا في “كاتس هيوفل” بجنوب مقاطعة البرابانت موقع حديقة السفاري المخصصة للمغامرة والتنزه وسط الحيوانات البرية “المستأنسة” التي تحصل على وجبة غذائها في وقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر.
شعرت باللسعة تحت إبطي اليسرى، وخزة صغيرة مفاجئة أعقبتها دفعات من الألم أشبه بصعقات كهربائية متتالية تتجه للجزء الأسفل من الجسم من الطرف الأيسر للأيمن ثم صعودا نحو الكتف والرأس لتكتمل الدورة التي هي أشبه بنوع من الألم الـ “ستيريو”.
رأيت البقعة الصغيرة السوداء التي تتحرك على غشاء عيني، والتي كنت أحسبها جلطة صغيرة حميدة، والتي كان لليلى عبدالصمد، زميلتي في الابتدائية، مثلها ولكن بحجم أكبر في عينها اليسرى، وكانت حوراء أيضا ذات فم عريض واسنان مطفأة البياض ولكنها جميلة ومرصوصة بإهمال شبه متعمد.
كان لها جسم ناضج نتطلع إليه بانبهار في ذاك العمر المبكر الذي لا يتورع فيه الصبية من ارتكاب الأكاذيب الصغيرة، ورائحة عرقها محببة، محلب مخلوط بدهن تشوبه رائحة قشر البرتقال. رأيت ليلى تضحك ضحكة غير موجهة لأحد، بسبب الخجل الفطري الذي يزيدها جمالا وفتنة، ثم زمت شفتيها بحركة ذات طابع عصابي، كمن يوبخ نفسه على ضحكته.
رأيت البقة السوداء على طرف عينها وكأنها تقفز لعيني أنا، رأيتها تنشطر ويتحول لونها الداكن إلى أبيض، إلى نجوم بيضاء كثيرة.
تسلل من بين النجوم البيضاء صقر أبيض كان يلازمنا في زيارة ضريح جدنا الولي “حجاجو أبو النينة” . الصقر جزء من روحه التي تحلق في الأعالى، يرشد الساعين للمزار ويحرسهم من التوهان. كان الجهادية بجببهم المرقعة يهجمون على الفرقان والقرى الصغيرة طلبا للزاد والطعام. كان حجاجو يمسك بروث البقر الطازج الأخضر ويعزم ويقرأ عليه، فتتحول ساحة الفريق إلى روث يابس حال عليه الحول.
أبو النينة لا يحب عفرتة الصغار ونواياهم الرمادية حين زيارة ضريحه. كانوا يحذروننا ويوصوننا بملابس داخلية نظيفة تماما، وإلا عليك خلعها على بعد كيلومترين عند بركة المياه التي لا تجف صيفا وخريفا.
وقيل أن الصقر الأبيض يفتش النوايا ويعرف صاحب العزم الخالص على زيارة ضريح الولي، ويعرف من يتذرع بالزيارة لملاقاة الفتيات، فيرسل عليه نحلا متوحشا يستهدفه من دون الآخرين فتكتمل الفضيحة وتتحد مع الألم. تحول الوجع لدوار ورعب عظيم يدفع بالحجاب الحاجز للأعلى حتى ينقطع النفس كمن سقط من طائرة تحلق عاليا.
كانت السماء زرقاء وباردة، ولا أدري لماذا غادرت جسد الطائرة للفضاء الطلق. ظللت اسقط .. وأسقط حتى غلبني التنفس فشهقت ذات الشهقة المتكررة التي تلازمني في أحلامي ودهشتي ولحظات فرحي المفاجئ.
قالت زهرة أنها لا تثق في ضحكتي، كانت تقول أن ثمة تهديد في طبقات الضحكة، وأنا أبدأ من القمة ثم أهبط نحو القهقهة العميقة المهددة التي زعمتها. قالت ذلك وأنا لا علم لي. كان ذلك ذات مساء جمعة، واقترحت علي أن نحشش، وأنا اعتبر تدخين السجائر العادية جريمة كافية.
كانت زهرة تضحك وتسيل الدموع من عيونها، لا أدري هل من فعل الدخان أم بسبب عمق الضحكة وفعلها في عضلات الوجه والأنف والعيون والكم الهائل من العضلات التي تنشطها وتحركها. أحسست بأني كائن غير مسلي وعاطل عن أي رغبة في التفاعل. صرت أبحلق وأندب حظي على المصير الذي وصلت إليه ذاك المساء، وتخيلت بأني لن أفارقه بقية عمري.. وكأن المأساة لم تكتمل انتبهت لصوت الموسيقى المنبعث من السماعات الصغيرة الموزعة في أركان الغرفة:
“تبريحي صاليني وهيامي زاد أضعاف ومنامي ساليني
قول انت سليني خلي اليزول مني ألمي المواليني”.
هممت بإفراغ ما في معدتي من عشاء تناولته مبكرا، لكن زهرة قالت لي أن الاستفراغ محجوز للسكارى وحدهم ويتضمن إهانة لجلسة الكيف الرفيع، وأنني يجب أن أكون قدر العشم لتؤتي الليلة أكلها، وطفقت تبلل راسي بقطة قماش مغموسة في ماء مثلج.. قلت لها إن الرحلة نحو الأرض كانت طويلة ولكن بهجة المنظر تختصر عليك الوقت.. يجب أن تجربيها يا زهرة.. قالت لي ومن زهرة هذه؟
أنا لويزا غوميز، قلت لها مداريا الالتباس الفظيع، أعرف أني أدللك باسمك الآخر “مورينا” الاسم الذي يمجد اللون الأسمر ويعد المرء بأجمل ما في الكائن الآدمي. ناوليني فطوري يا لويزا، ذرة حلوة وأقراص موز بلانتين مقلية ومعها كريمة الفاصوليا السوداء فأنا حصانك المدلل..
طالعتني بعتاب أحسست معه بحرارة تنبعث من عينيها وتلامس موجاتها جسدي. اختلاف الجينات يؤدي لاختلاف درجات الحرارة. وحمض الخلايا النووي يشم ويسمع مثل نهر هادر يشق تضاريسا صخرية نحو الأسفل، نحو المصب.
قالت لي كيف كانت الرحلة؟
قلت لها تقصدين رحلة السقوط من السماء للأرض؟؟
قالت مؤكد أنك طماع، و أنك أخذت رشفة من نبات الروح المتسلق “الاياهواسكا” أكتر مما نصحتك به، أتمنى أنها كانت رحلة مباركة قابلت فيها أسلافك..
عندها تذكرت أن النحلة التي لسعتني في ريف كاتس هيوفل، تعود حادثتها لعقد مضى من الزمان، ولكن مهرجان الدم لم يتوقف.
——————————-
أياهواسكا: مخدرات نفسانية التأثير تقوم بتحوير الإدراك والاستيعاب وذلك عبر مناهضة مستقبلات السيروتونين يستخدمها الهنود الحمر للعلاج.
أجاد الكاتب إستخدام اسلوب تداعي الأفكارstream of consciousness ببراعة في هذا النص المكثف الرائع, الذي اسمتعت بقراءته و إعادة قراءته .