المحارب.. رواية.. الحلقة الخامسة

الطريق من توريت الى جوبا يتعرج حينا، ويستقيم احايينا أخر، والسيارة تشق طريقها وسط الوحل، والحال هكذا ظل اشرف على جلسته تلك، مغمض العينين، ضاغطٌ بيده اليمنى على جرحه اعلى صدره بجانب كتفه الايسر، فالجرح لا يزال ينزف رغم مرور الساعات، والالم اضحى على اشده والطريق الموحِل يتمدد كانما لا نهاية له.
سأل السائق اشرف: كيف بدأت الاحداث فى خور انجليز بين قواتنا وقوات المتمردين؟.
قطع السائق حبل افكار اشرف بسؤاله، ففتح عينيه ببطء فوقعتا على ماسحتى الزجاج التين تعلوان وتهبطان فى رتابة كئيبة وهما تقومان بطرد وتجفيف مياه الامطار.
قال له الهميم ود الضو فى حماس، وهما يقومان مع آخرين بتعبئة الجوالات بالتراب ومن ثم رصها على طول ضفة النهر لحجز المياه عن الدخول الى القرية، المياه المتدفقة باندفاع جنونى والتى عجز مجرى الازرق العملاق عن احتوائها فى ذلك العام الذى انفتحت فيه ابواب السماء طوال ايام شهرى يوليو واغسطس، فطمحت مهددة كل القرى الواقعة على ضفتيه بالغرق: هى معركتنا ضد الغرق، نكون او لا نكون، فاما الصمود أو ستذهب ريح بيوتنا، انه الطوفان وليس هناك عاصم من الماء غير سواعدنا هذه.. لقد تحدى هو واقرانه عنفوان النيل الازرق عند فيضانه فتصدوا له ومنعوه الخروج عن مساره.. لا يذكر انه دخل معركة ايا كانت وخرج منها مهزوما، معركته ضد فساد اعضاء ما يسمى باتحاد المزارعين المسنود من حكومة الولاية، معاركه مع جماعة الامن الاقتصادى فى مواسم حصاد القمح، معاركه ضد المصالح الذاتية لافراد اللجنة الشعبية بالقرية والتى هو احد اعضائها البارزين، لقد خاض فى حياته حروبا متعددة الجبهات، ولم يصب فيها باذى، إذ كان يخوضها بعزيمة الواثق من النصر.. كانت حروبه كلها اما فى سبيل احقاق الحق، او مناصرة مظلوم.. حارب الفاقة بان جعل كل وقته للعمل.. حاصر نفسه والجمها وحارب شهواتها بابتعاده عن المعاصى، فان ينسى فلن ينسى معركته ضد شهوته عندما راودته (النوّارة) الفتاة الجريئة اللعوب عن نفسه فى انداية كلتوم الدلالية، تلك المعركة التى سناتى على ذكرها فى حينه، يومها لم ينتصر فيها على نفسه وهواها فحسب، بل انتصر على الشيطان ذات نفسه.. لم يصب باذى فى جميع حروبه التى خاضها، كان دائم السعادة بحلاوة الانتصار، وفى كل معركة خاضها كان يخرج منها وهو اكثر قوة وحبا لمعانى الحياة.. اذا ما من معركةٍ المُعتَرَك فيها كان وجها من اوجه الخير دخلها فى حياته الا وكسبها وكان المنتصر فيها، الا هذه المعركة – معركة تحرير توريت – التى رمت به الاقدار وحدها فى اتونها، لقد خاضها منذ البداية وهو يشعر فى قرارة نفسه بالهزيمة، الهزيمة النفسية القاسية، إذ ظل يعانى مرارة تبكيت الضمير وهو يطلق نيران بندقيته تجاه ما يسمى مجازا بالعدو، فلربما اصابت احدى رصاصاته ابن قريته وصديقه متوكل المعروف بين اهل القرية بـمتوكلوف الذى يقاتل فى صفوف التمرد منذ التحاقه بالتجمع الوطنى، فاردته قتيلا.. وايا من تصبه رصاصاته فهو اخا له، وهو لا يود ان تقترف يداه هذه الجريمة التى سيحاسبه الله بها.. انها معركة خاسرة، ليس فيها منتصر، لقد خسر نفسه وقناعاته وضميره مع انطلاق اول رصاصة من بندقيته، نعم لقد وضعته الاقدار فى (خانة ) القاتل، تارة بزعم الدفاع عن الوطن والهوية وما الى ذلك من العبارات التى ما فتئت ألسنة الساسة تلوك فى احرفها، وتارة بحجة الدفاع عن العقيدة، والاخيرة هذه يدحضها وجود منتمين بالطرف الآخر لنفس عقيدته، اذاً فقد وجد نفسه فى موقف لا يحسد عليه، موقف جعله يصوب سلاحه ضد اخوة له يشاطرونه رقعة الوطن العريض، وتظللهم ذات السماء، ولاول مرة فى حياته يحس بطعم الهزيمة رغم بشريات النصر الكاذب التى لاحت فى الافق، ان معركة توريت وكل المعارك التى دارت رحاها فى الجنوب، انما هى معارك بلا معترك حقيقى.. انه ضد الظلم بكل اشكاله، وليس هناك ظلما اشد من سلب الناس ارواحهم بغير وجه حق، ليس هنالك ما يقاتل من اجله، انه والذين يقاتلون معه وقود لمعارك يديرها الساسة من داخل مكاتبهم المكيفة لاجل الاستمرار فى الجلوس على كراسى الحكم، لا مصلحة للعوام من امثاله فيها، والذين صبغوها بالدين وشعاراته العادلة انما فعلوا ليوطدوا دعائم حكمهم على جماجم الابرياء.
اجاب باقتضاب: كبداية أى معركة ..
– اعلم ذلك، ولكن قصدت معرفة بعض التفاصيل، فالمعركة مصيرية، والحكومة راهنت على تحرير المدينة من ايدى الخونة والعملاء.. وحتما النصر سيكون حليف قواتنا الباسلة .. وسنطرد اعداء الله والوطن من كل شبر من ارض جنوبنا الحبيب، قال السائق ذلك بطريقة خطابية وهو يضغط بقدمه على دواسة الوقود، ثم اردف بحماس زائد وهو يمسك بعصاية الجير بوكس ويدفع بها الى الخلف: لن يكون للذين يحاربون بالوكالة موطئ قدم على هذه الارض الطيبة.
من حديثه وحماسه الزائد اتضح لاشرف ان السائق ممن يعتقدون ان كل من حمل السلاح لقضية آمن بها ? وان كان على حق – أو من خالفهم الراى ? وإن كان على صواب ? انما هو خائن وعميل ومرتزق، فهو مثله مثل الملايين الذين تشكلت اراءهم بما تبثه آلة النظام الاعلامية الضخمة التى ظلت تعزف على وتر الدين والوطنية، وترمى كل من خالف او عارض النظام بالعمالة والارتزاق، ففضل السكوت على الانزلاق فى حديث لا طائل من ورائه.
تحدث احد الجنديين الذان يجلسان بالخلف واسمه خالد، وكان ممن تدربوا مع اشرف واحد افراد مجموعته الاحدى عشر والذين شارك اغلبهم فى معركة تحرير توريت، تحدث خالد قائلا : منذ ثلاث ليال وقواتنا تحاول اقتحام المدينة من الجهة الشمالية الشرقية، وقد تكبدنا فى ذلك كثير من المشاق واستشهد منا الكثير وجُرح العشرات وقد وجدنا مقاومة عنيفة من جيش العدو الا انهم بدأوا فى الانسحاب بعد الضربات الموجعة التى تلقوها من سلاحنا الجوى الذى اجبرهم على التقهقر والفرار.. واليوم او غدا ستكون المعركة الحاسمة.
استرجع اشرف شريط احداث البارحة فالتفت موجها حديثه لخالد، وقال بتأثر وهو يتحسس جرحه: البارحة كانت ليلة ليلاء، كنا سرية من المشاة أوكلت لنا مهمة تمشيط الطريق، وفتح معبر ليسهل على قواتنا الدخول من الجهة الشمالية للمدينة، بعد ان حسمت معركة خور انجليز لصالح القوات المسلحة، وتم ذلك عبر الوحل والطين، والامطار تهطل على رؤوسنا بغزارة، فوقعنا فى كمين كان قد نصب فى طريقنا، ولو لا استبسال الرفاق الذين دافعوا بضراوة لراح الكل ضحية ذلك الكمين، وعندما احس جيش الحركة بعزيمة الرفاق فرت فلوله امامنا بعد ان قُتل اربعة من الرفاق كان بينهم صديقى ورفيقنا صلاح هارون واصيب منا الكثير غير انها اصابات خفيفة لم تقف حائلا بينهم ومواصلة القتال.
– صلاح استشهد.. صاح خالد فى جزع، ثم سكت برهة قبل ان يزيد بنبرة حزينة: صلاح الذى كان يملا الزمان والمكان.. صلاح بمرحه وظرفه الذى كان يخفف علينا به وعثاء التدريب.. لا حول ولا قوة الا بالله ، صلاح الذى …؟ لم يستطع خالد اكمال حديثه فقد ضاع صوته فى حلقه وانخرط فى نوبة من البكاء.
أحس أشرف باختناق فاعتدل فى جلسته، ومد يده الى المقبض البلاستيكى الذى يتحكم فى رفع وإنزال الزجاج، واداره بعصبية فانحسر جزءٌ من الزجاج دخلت عبره موجه من الهواء البليل حملت معها شئ من الرزاز فملأ رئتيه ثم رجع الى وضعيته التى كان عليها، مستندا بظهره على خلفية المقعد، ثم اطلق لخياله العنان وقد سرح من جديد مع شريط الذكريات.
كلما تكالبت على الانسان المحن، واحاطت به عاديات الايام، واستوطن نفسه شئ من الحزن، جنح الى الماضى يجتر الذكريات، فقد يكون فى استرجاعها بعضا من السلوى، والماضى واحداثه – جسيمة كانت – اوجميلة يحن اليها المرء ويستعيدها فى ذاكرته بنوع من الحنين والشجن، ومصرع صلاح امام عينى اشرف ترك فى نفسه حزن يكاد يقضى عليه لو لا انشغاله بجرحه، فهو لن ينسى الاوقات الحلوة التى امضياها معا منذ ان التقيا فى اول يوم من مجيئهما المعسكر، فقد كونا ثنائية مرحة احبها كل ابناء الدفعة، إذ انهما لم يفترقا طوال فترة وجودهما بالمعسكر.. كانا كتوأم سيامى، لا تراهما الا معاً، واليوم وقد ودع رفيقه وصديقه صلاح فها هى مرارة الحاضر تدفع به الى ان يستعيد ذكرياته الحلوة مع رفيقه الذى رحل، رحل صلاح دون ان يلتقى امه التى كانت تنتظر عودته من غربته التى امتدت لسنوات، رحل قبل ان يجد اجابة على اسئلة طالما ظلت تلح على كل من ساقته خطى الاقدار الى تلك الحرب اللعينة: علام يتقاتل ابناء الوطن؟ وعمّ يبحث طرفا النزاع، ولمصلحة من هذا العناد الذى اهلك الحرث والنسل طوال خمسة عقود من الزمان؟ ودع صلاح الدنيا وفاضت روحه الجميلة الممراحة برصاصة ارخص من التراب الذى كان يسير عليه، مات كما مات ابوه من قبل برصاصات الجبهة الوطنية فى غزوتها الشهيرة للخرطوم، وكما مات جده الرابع ذو النورين فى معركة كررى ابان عهد الخليفة عبد الله ود تورشين، طبعا مع اخذنا فى الاعتبار؛ الفارق الكبير فى الاهداف بين معركة توريت، ومغامرة الجبهة الوطنية، وبين معركة كررى التى خاضها الاجداد ذودا عن حياض الوطن.. مات صلاح كما مات ابويه، فلكانما كتب على هذه العائلة ان تقدم ارواحها قربانا لوطن كتب على جبينه يائس من نعمة الاستقرار.
لماذا يذهب الطيبون الذين يضعون بصماتهم على شُغُفِ قلوبنا ويستعجلون الرحيل؟، لماذا يتركوننا نتنكب طرقا كانوا قد مهدوها لنا بحكمتهم وبسماحتهم وطيب فعالهم، ففى صباه وقبل بلوغه سن الرشد بقليل فجع برحيل جدته السرة بت الرفاعى التى تشكلت على يديها معالم شخصيته من خلق، وادب، وكرم، وايثار، كما تشكل عليها ايضا نمط حياته الذى استمده من نمط حياتها التى اصقلتها التجارب خلال سنين عمرها الطويل.. كانت مثله الاعلى فى كل شئونه.. حبها للآخرين وعفويتها وحكمتها وحنكتها التى كانت تدير بها ازمات شقاوة طفولته، فكم دفعت عنه عقوبة تربصه بها والده جراء الشكاوى الكثيرة التى تأتيه من اباء اقرانه، وكم ذا دافعت عن افعاله الطائشة، لقد تعلم منها الصدق والصبر والثبات على المبادئ.. صحيح ان الموت كتابا مؤجلا وان ليس هناك نفس ستنتزع منها الروح الا باذن بارئها، غير ان من نحبهم دائما ما يتعجلون الرحيل، فهل هم فعلا كذلك، ام ان حبنا لهم وفداحة مصابنا فيهم تجعلنا نصدق تصوارتنا فى انهم ذهبوا على عجل؟ ان حزنه والمه من مصابه فى صديقه الذى احبه، وموته امام عينيه يكادان يلحقانه به لو لا ايمانه بقضاء الله وقدره.

الامين ابراهيم احمد ارباب
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..